تقارير-و-تحقيقات

سر قضاء الحوائج الإلهي.. الإفتاء تكشف من أنفق مما يحب نال ما يتمنى

 

تقرير:مصطفى علي

لا يخلو قلب إنسان من حاجة يرفعها إلى الله، فكل نفسٍ حية تسعى لقضاء مطالبها، وتلجأ إلى خالقها في ضيقها ورجائها. ومن هذا الشعور الإنساني العميق يتجدد السؤال الدائم: إذا كانت لي حاجة عند الله، فبماذا أطرق باب السماء؟
دار الإفتاء المصرية، في بيانٍ روحاني بليغ، أجابت على هذا التساؤل الذي يهم كل مؤمن، مؤكدة أن الطريق إلى نيل الحاجات ليس فقط في الدعاء، وإنما في الإنفاق مما يحب الإنسان، فهو المفتاح الذي يفتح أبواب القبول والبركة والرضا الإلهي.

الإفتاء: من أنفق محبوبه وجد مطلوبه

أوضحت دار الإفتاء المصرية أن من كانت له حاجة عند الله سبحانه وتعالى فعليه أن يُقدِّم لله ما يحب، مستشهدة بقول الله تعالى في الآية (92) من سورة آل عمران:

{لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}.

وأكدت الإفتاء أن هذه الآية الكريمة وضعت منهجًا ربانيًا دقيقًا لقضاء الحوائج، فكل من أنفق من أحبّ ماله أو أحبّ ما يملك في سبيل الله، فتح الله له أبواب التيسير وأجابه إلى طلبه. فالنفقة هنا ليست مجرد إنفاقٍ مادي، بل تجسيد عملي للإخلاص والتجرد من التعلق بالدنيا.

وأضافت الدار أن الله سبحانه وتعالى ربط بين “البر” وهو كمال الطاعة والقرب منه، وبين الإنفاق من المحبوبات، أي أن الإنسان لن يبلغ مراتب الإحسان والبر إلا إذا جاد بما يحب، لأن الإنفاق مما نحب امتحان حقيقي لصدق الإيمان، وميزان دقيق لمدى تعلق القلب بالله لا بالدنيا.

الآية التي تكشف سر البركة في العطاء

تؤكد الآية الكريمة أن البر الحقيقي لا يُنال إلا بالبذل مما تهواه النفس، فالمال أو المتاع الذي تحبه ليس مجرد رزق، بل وسيلة اختبار ولذلك جاء التعبير الإلهي دقيقًا: {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}، ولم يقل “مما تملكون”، لأن الإنفاق من المحبوب يعبّر عن تخلّي الإنسان عن جزءٍ من ذاته في سبيل الله.

وفي هذا السياق، شددت دار الإفتاء على أن الإنفاق مما تحب لا يعني فقط المال، بل يشمل كل ما هو عزيز على النفس: من وقتٍ، وجهدٍ، وراحةٍ، وعطاءٍ للغير، حتى الكلمة الطيبة والابتسامة في وجه محتاج فكل ما تقدّمه لله خالصًا لوجهه، يعود إليك مضاعفًا في الدنيا قبل الآخرة

تفسير الآية.. وعد رباني مشروط بالصدق

في تفسير قوله تعالى: {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}، يبيّن الإمام أبو جعفر الطبري أن الله يخاطب المؤمنين بقوله:

لن تدركوا البر، وهو رضوان الله وجنته، حتى تُنفقوا مما تحبون وتحرصون عليه من نفيس أموالكم

ويضيف الطبري أن البر في هذه الآية هو الجنة، أي أن طريق دخولها لا يمر فقط عبر الصلاة والصوم، بل عبر الإنفاق الصادق الذي يطهّر النفس من الشحّ والبخل فالإنسان الذي يُقدّم ما يحبّ لوجه الله هو الذي بلغ مرتبة الإحسان، لأن الإحسان أن تعطي وأنت قادر على الإمساك، وأن تبذل وأنت في حاجة.

ويتابع المفسر الكبير في شرح قوله تعالى: {وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}، موضحًا أن الله مطّلع على كل نفقة مهما صغرت، يعلم النية التي صاحبتها، ويجازي صاحبها بما يستحقه، فلا يضيع عند الله شيء من معروف، ولو كان تمرة، أو لقمة، أو كسرة خبز.

من أسرار العطاء.. حين يتحول الإنفاق إلى دعاء

يشير علماء النفس والروح إلى أن الإنفاق مما يحب الإنسان يخلق طاقة روحية إيجابية تدفع البلاء وتجلب التيسير، لأن العطاء في ذاته عبادة ودعاء صامت. فالإنسان عندما يعطي مما يحب، يعلن أمام الله أنه يقدم قربان محبته، فيفتح الله له أبواب الفرج.

دار الإفتاء أوضحت أن من أراد قضاء حاجته فليقرن دعاءه بعملٍ صالح، وأعظم العمل الصالح هو الإنفاق. فالمال الذي يُنفق في سبيل الله يتحول إلى وسيلة اتصال مباشرة بين العبد وربه، تُرفع بها الدعوات وتُقضى بها الحوائج.

ولهذا قال بعض الصالحين: “من أراد أن يُستجاب له الدعاء فليجعل بينه وبين الله صدقة”. فالله يقبل من عبده الصادق صدقته، ويستجيب رجاءه بما لا يخطر على باله

سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه تزخر بأمثلة تترجم معنى الإنفاق مما نحب فعندما نزلت الآية، بادر الصحابي أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه، وقال: يا رسول الله، إن أحب أموالي إليّ بيرحاء (بستان جميل)، وإني أريد أن أجعله صدقة لوجه الله. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: “بَخٍ بَخٍ، ذاك مالٌ رابح، ذاك مالٌ رابح”.

هذه القصة تمثل جوهر الآية، فـمن قدّم لله ما يحب رزقه الله ما يتمنى. أبو طلحة لم ينتظر قضاء حاجة دنيوية، لكنه أراد رضا الله، فجعل الله صدقته بركة في دنياه وآخرته

توضح دار الإفتاء أن البر في مفهوم القرآن ليس مجرد الإحسان للناس بل هو حالة من الصفاء الإيماني بين العبد وربه، تتجلى في أعمال القلوب قبل الجوارح. والإنفاق مما يحب الإنسان أحد مظاهر هذا البر، لأنه يعكس عمق الثقة في الله، ويحرر الإنسان من عبودية المال.

فالمؤمن حين يعطي مما يحب، يعلن أن رضا الله أغلى من متاع الدنيا، وأن قضاء حاجته لا يكون بالطلب اللفظي وحده، بل بالفعل الصادق الذي يقدّمه قربانًا بين يدي مولاه

الإنفاق طريق إلى البركة في الرزق والحياة

العجيب أن من يعطي لا ينقص ماله، بل يزيد، لأن وعد الله صادق:

{وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}.
وهكذا يتحول الإنفاق من اختبارٍ للإيمان إلى باب من أبواب البركة والرخاء فمن أنفق مما يحب وجد مطلوبه، ليس فقط قضاء حاجة عاجلة، بل طمأنينة في القلب، وسعة في الرزق، ونورًا في الوجه.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights