الرئيسيةمقالات

لواء دكتور أيمن حلمي يكتب: علمٌ خَلقٌ واجبٌ.. شعار الدفعة الجديدة لأكاديمية الشرطة

في صباحٍ مصريّ يفيض هيبةً وانضباطًا، رفرفت أعلام أكاديمية الشرطة بالقاهرة الجديدة بينما يصطفّ الخريجون في تشكيلٍ مُحكم، والأنظار تتجه إلى المنصّة حيث يشهد الوطن ميلاد دفعةٍ جديدة من حَمَلة القانون، وحماة الوطن.

ليس هذا المشهد تفصيلًا بروتوكوليًا عابرًا؛ إنّه إعلان واضح بأن الأمن يبدأ من هنا، من مصنع الرجال، من مدرسةٍ تُزاوج بين العلم والخُلق والواجب، وتُخرِّج ضباطًا يدركون أنّ قوّتهم الحقيقية في عقولهم وقيمهم قبل سواعدهم.

هنا في أكاديمية الشرطة تُصاغ عقلية الضابط على منهجيةٍ نقديةٍ قادرة على اتخاذ القرار تحت الضغط، تُسندها محاكياتٌ رقمية وسيناريوهات عملياتٍ ميدانية تُقلّص المسافة بين الدرس والتطبيق.

في ميادين التدريب تُختبر الجاهزية البدنية الشاملة، من القفز والعبور والتسلّق إلى السيطرة الحركية الدقيقة، وتتسارع القلوب مع رماياتٍ تُجرى تحت قيودٍ زمنيةٍ صارمة لا ترحم التردّد.

تتوالى تكتيكات الاقتحام وإدارة الاشتباك القريب، وتنتظم تشكيلات مكافحة الشغب وحماية المنشآت كحركات أوركسترا منضبطة، فيما تواكبها بروتوكولات الإسعاف التكتيكي لإنقاذ الحياة في الدقائق الذهبية، هكذا تتجاور القوّة بالمسؤولية، والاحتراف بالإنسانية، في صناعة رجل شرطةٍ «مقاتل بالقانون» يعرف حدود سلطته بقدر ما يُحسن استخدامها.

ولأن الجرائم تطوّرت وصارت عابرةً للحدود والفضاءات الرقمية، فقد دخل الذكاء الاصطناعي قلب العملية التدريبية في أكاديمية الشرطة في شكل محاكاة لتولّد مواقف متغيرة لحظيًا، وأنظمة تقييمٍ فوري ترصد القرارات والأخطاء لتصحيحها، ومنصّات تحليل بيانات جنائية تُدرّب الطالب على قراءة الأنماط واستباقها، فيما تعلّمه تطبيقات الرؤية الحاسوبية كيف يلتقط الإشارة الخفية في المشهد الصاخب.

يتعلّم الخريج أن يرى البيانات كما يرى الميدان، وأن يفكّ شيفرات الجريمة الإلكترونية كما يُحسن تأمين مسرح الجريمة الواقعي، بهذه الروح التقنية، لم تعد «المعرفة» محاضرةً تُحفظ، بل مهارةً تُمارَس، وأداةً ذكيةً تُستخدم لمنع الجريمة قبل وقوعها، وتجسّد العروض الميدانية في حفل اليوم.

ويتجاوز بهاء هذا اليوم حدود الجغرافيا؛ فإلى جانب خريجي مصر يقف أبناء الدول العربية والإفريقية الشقيقة في صفٍ واحد، يحملون الشارة نفسها والقَسَم ذاته، وفي مقدّمتهم الضباطٌ الخريجيين من دولة فلسطين الشقيقة، في توقيتٍ يُضاعف من رمزية المشهد ومعاناة أهالي غزة.

هنا تتجسّد فكرة الأمن الإقليمي المشترك، من تبادلُ خبرات، وبناءُ قدرات، وتوحيدُ معايير مهنيةٍ تُعلّم الضابط أن العدل قيمةٌ واحدة لا تتجزأ وأن الكرامة الإنسانية لا تُقسَّم حسب الجنسيات، وحين تتعانق الأعلام في ساحة العرض، تشعر أنّ هذه الدفعة ليست «رقمًا» في سجلات التخرّج بقدر ما هي جسرٌ حيّ بين شعوبٍ تتطلّع إلى استقرارٍ نابعٍ من معرفةٍ منضبطةٍ وأخلاقٍ راسخة.

وعندما تُطوى الساحة وتبقى الأصداء، يترسّخ على الألسنة معنى العنوان: علمٌ خَلقٌ واجبٌ. علمٌ يُسلّح الضابط بأدوات العصر وذكائه الاصطناعي، وخُلقٌ يحصّنه من غوايات القوّة، وواجبٌ يدفعه لأن يكون الصورة العادلة لسلطةٍ تُنصف الناس قبل أن تُخيفهم.

إنها رسالة دفعةٍ جديدةٍ خرجت من بوابات الأكاديمية وهي تعرف أن أمن المجتمع اليوم يبدأ بفكرةٍ تُمنع بها جريمة، ومعلومةٍ تُنقَذ بها روح، وقرارٍ يتّسق مع القانون مهما كانت الضغوط، وأن الأخوّة مع الأشقاء، وفي مقدّمتهم فلسطين، شراكة تدريبٍ وقدرةٍ ومصير.

مبروك لمصر وخريجيها، ومبروك لأمّتنا التي ترى في هذه الوجوه وعدًا بأن تظلّ الكرامة آمنةً والقانون أعلى من الجميع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights