لواء دكتور طارق عمار يكتب: رجلٌ بمعنى الكلمة

اليوم بدر لي سؤال أثناء خطبة الجمعة وهو كيف يكون الرجل كما تعنيها الكلمة من معنى؟
لطالما قلنا في زمن «العهد الجميل» إن بناء المرأة هو بناء جيل، ثم جرى ـ مع الزمن ـ تهميش دور الرجل حتى صار في نظر بعضهم إمّا شخصًا غير فاعل، أو «آلة صرّاف» للأسرة، فتراجع الدور التربوي للأب في البيت، في وقتٍ نكاد نتيقّن فيه أن الدور التربوي للمدرسة قد تَضاءل، وبقي ـ والحمد لله ـ دورها التعليمي.
نعود إلى أصل السؤال: أين ذلك الرجل الذي كان يعول نفسه وأسرته، ويُنشئ تحت رعايته أسرةً صغيرةً قويةً تستمد قوتها من قوته؛ أخًا كان أم أبًا؟ لقد وضعت منظومات الحياة يدها على مواطن القوة فينا لتُضعفها، حتى صارت الحياةُ «هي المتحكِّم» في تفاصيلنا.
ولسنا هنا لنُنكر دور الأم، بل لنقول إن الأخت والابنة والزوجة يحتجن إلى من يُحسن توجيههن وترتيب الأدوار بخبرةٍ وعدلٍ عندما يكون هناك رجلٌ بمعنى الكلمة. وقد قرأتُ قولًا بليغًا يصلح مبدأ: «بناءُ الرجل أهمُّ من بناء مدينة؛ لأنك إن هُدمت المدينة أعادها الرجل»، فلنبحث معًا: كيف نبني رجلًا كما تعنيها الكلمة من معنى؟
أولًا: الفهم الحقيقي للرجولة
الرجولة ليست عضلاتٍ ولا مالًا ولا هيبةً ظاهرة؛ بل هي مزيجٌ من الثبات والأخلاق والمسؤولية والرحمة، قال تعالى: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ﴾، فالرجولة ـ ابتداءً ـ صدقٌ مع الله ومع النفس.
ثانيًا: مقومات بناء الرجل الحقيقي وهي كالتالي:
- الإيمان والمبدأ: لا يعيش الرجل بلا مبدأ؛ يحتاج إلى إيمانٍ يهديه، وقيمٍ تضبط قراراته.
- المسؤولية: يتحمّل نتائج أفعاله، ولا يهرب من تبعات قراراته؛ لا يلعن الظروف، بل يصنع طريقه فيها.
- الكرامة والصدق: يحفظ كرامته وكرامة غيره، لا ينافق ولا يخدع، ولا يطلب ما ليس له بحق.
- الرحمة: الرجولة ليست قسوة؛ أن تكون قويًّا بلا عنف، رحيمًا بلا ضعف. كان النبي ﷺ أرحمَ الناس، ومع ذلك كان أشجعهم.
- العمل والإنجاز: الرجل يبني ويُنتج ويُصلح؛ لا يقف متفرّجًا، بل يترك أثرًا في أسرته ومجتمعه.
- الوعي والعقل: يعرف متى يتكلم ومتى يصمت، متى يعفو ومتى يرد، ومتى يُقدِم أو يُؤجِّل؛ يضبط نفسه حين يقدر.
ثالثًا: كيف نُنشِئ هذا الرجل عمليًا؟
في البيت: بالقدوة أولًا لا بالأوامر؛ يرى الابنُ أباه صادقًا، مسؤولًا، متوازنًا.
في المدرسة: نغرس الفكر النقدي والشجاعة الأخلاقية؛ الصدق، واحترام الحق، لا الخوف من المعلم.
في المجتمع: نُكرّم الرجال الحقيقيين لا أصحاب المظاهر الفارغة.
في نفسه: نعلّمه أن الرجولة تُكتسَب ولا تُمنَح.
والخلاصة أن الرجل يُبنى بالعقل والضمير قبل الجسد والمال، فالرجولة موقف لا لقب، ومع صخب الحياة التكنولوجي والاقتصادي، نسينا أن غياب الرجال الحقيقيين يُنتج فوضى ويضيّع الحقوق، ويُفسح المجال لأشباه الرجال، في عصورٍ سابقةٍ كان هناك رجالٌ تُرجَع إليهم المشورة ويُلتزم حكمهم لأنهم رجالٌ بمعنى الكلمة.
وفي الحلقة القادمة نتوقف عند السؤال الأهم: كيف تراجعت روح الأسرة في مجتمعنا؟ وما الطريق إلى استعادة تماسكها.


