أصوات خالدة في رمضان.. قراء نقشوا أسماءهم في ذاكرة الشهر الفضيل

يحل شهر رمضان المبارك حاملًا معه أجواءً روحانية مميزة، حيث تتعالى أصوات التلاوات القرآنية في المساجد والمنازل وتصطف الإذاعات والمحطات التلفزيونية لتبث أعذب الأصوات التي تأخذ المسلمين في رحلة روحانية تتجدد كل عام.
لا يقتصر ارتباط القرآن بالشهر الكريم على التلاوة فقط بل أصبح للصوت دور كبير في إيصال معاني الآيات وجذب المستمعين إلى التدبر والخشوع.
على مر العقود، برز عدد من القرّاء الذين أصبحت أصواتهم أيقونات رمضانية، لا يمر الشهر الفضيل دون أن تملأ تلاواتهم الأجواء حتى صار سماعهم طقسًا رمضانيًا أصيلًا.
بعضهم عُرف بعذوبة صوته، وبعضهم اشتهر بقدرته الفريدة على التأثير في قلوب المستمعين، ومنهم من امتلك حضورًا عالميًا تجاوز حدود الدول الإسلامية.
في هذا التقرير نسلط الضوء على القرّاء الذين ارتبطت أصواتهم ارتباطًا وثيقًا بشهر رمضان، فصاروا جزءًا لا يتجزأ من روحانياته وما زالت تسجيلاتهم تتردد في البيوت والمساجد حتى اليوم
الشيخ محمد رفعت.. “قيثارة السماء” التي افتتحت عصر الإذاعة
مولد أسطورة التلاوة
وُلد الشيخ محمد رفعت في عام 1882 بحي المغربلين بالقاهرة، ونشأ في بيئة دينية جعلته يحفظ القرآن كاملًا في سن مبكرة ورغم فقدانه للبصر في طفولته فإن ذلك لم يمنعه من أن يصبح واحدًا من أعذب الأصوات التي عرفتها التلاوة القرآنية.
البداية مع الإذاعة المصرية
في عام 1934، عندما قررت الحكومة المصرية إطلاق الإذاعة الرسمية كان لا بد من اختيار صوت يفتتح البث الرسمي فوقع الاختيار على الشيخ محمد رفعت، ليكون أول من يتلو القرآن عبر الأثير، حيث بدأ بتلاوة الآية:
“إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا.” (الفتح: 1)
أسلوب التلاوة الفريد
تميز الشيخ رفعت بأسلوبه المميز في التلاوة، حيث كان يعتمد على مقام الحجاز الذي يمنح صوته هيبة وروحانية خاصة.
كانت قراءته أشبه برحلة تأملية حيث كان يأخذ المستمع معه في عالم من الخشوع والتأمل مما جعله واحدًا من أكثر القرّاء تأثيرًا في وجدان المسلمين.
إرثه الذي لا يُنسى
رغم رحيله في عام 1950، لا يزال صوته حاضرًا في شهر رمضان، حيث تُبث تلاواته يوميًا في الإذاعات والتلفزيون كأنها توقيع صوتي لهذا الشهر الفضيل.
الشيخ محمد صديق المنشاوي.. “القارئ الباكي” الذي أبكى القلوب
مسيرة قارئ من طراز خاص
وُلد الشيخ محمد صديق المنشاوي عام 1920 في محافظة سوهاج وسط أسرة اشتهرت بتلاوة القرآن حيث كان والده وأخوه من كبار القرّاء لكنه تفوق عليهم جميعًا بصوته العذب وتأثيره القوي على المستمعين.
التلاوة والخشوع.. سر اللقب “القارئ الباكي”
لم يكن الشيخ المنشاوي قارئًا عاديًا بل كان صوته مزيجًا من التضرع والخشوع حتى أنه اشتهر بلقب “القارئ الباكي” لأن نبراته كانت تحمل إحساسًا عميقًا بالآيات لدرجة أن بعض المستمعين كانوا يبكون عند سماعه.
اعتمد المنشاوي في تلاوته على مقام النهاوند الذي يتميز بطابعه القصصي والتعبيري مما جعل قراءته مؤثرة للغاية.
كان صوته يتنقل بين طبقات مختلفة تعكس معاني الرحمة والخشوع مما جعل تلاواته تجربة روحية فريدة.
صوت خالد في رمضان
اليوم، لا تخلو إذاعة أو محطة تلفزيونية من تلاوات الشيخ المنشاوي خلال شهر رمضان، حيث يجد المسلمون في صوته الخشوع والتدبر، وكأنهم يسمعون القرآن للمرة الأولى.
الشيخ عبدالباسط عبدالصمد.. “صاحب الحنجرة الذهبية” الذي أبهر العالم
صعود نجم عالمي في عالم التلاوة
لم يكن الشيخ عبدالباسط عبدالصمد مجرد قارئ آخر بل كان صوتًا عالميًا وصل إلى كل بقاع الأرض حتى أنه زار الهند وباكستان وإندونيسيا وفرنسا وأمريكا حيث استقبله الآلاف في كل مكان بحفاوة كبيرة.
أسلوب التلاوة الفريد
كان عبدالباسط عبدالصمد يتمتع بصوت قوي ومؤثر مما منحه لقب “صاحب الحنجرة الذهبية” كان قادرًا على الجمع بين الفرح والحزن في تلاوته مما جعلها تجربة روحانية خالصة.
اشتهر بقدرته على القراءة بجميع المقامات الموسيقية الشرقية لكنه تألق بشكل خاص في مقام البيات، الذي منح صوته طابعًا فريدًا جعله الأكثر شهرة بين قرّاء زمانه.
إرثه الرمضاني
حتى اليوم، لا يزال صوته يملأ المساجد في صلاة التراويح وختمات القرآن حيث يعد واحدًا من أكثر الأصوات استماعًا في شهر رمضان ليس في مصر فحسب بل في العالم الإسلامي كله.
الشيخ سيد النقشبندي.. “إمام المداحين” وصوت الأذان والابتهالات
بدايات صوت السماء
وُلد الشيخ سيد النقشبندي عام 1920 واشتهر في البداية كمنشد ديني قبل أن يتحول إلى واحد من أعظم المنشدين والمبتهلين في تاريخ العالم الإسلامي.
ابتهالاته الرمضانية التي لا تُنسى
إذا كان هناك صوت لا يمكن فصله عن أجواء رمضان فهو صوت النقشبندي وخاصة ابتهاله الشهير “مولاي إني ببابك” الذي أصبح جزءًا من ذاكرة رمضان في مصر والعالم العربي.
أسلوبه الفريد
امتلك النقشبندي صوتًا قويًا وعميقًا جعله قادرًا على أداء أصعب المقامات الموسيقية مما جعل موسيقيين كبار مثل محمد عبدالوهاب وبليغ حمدي يتعاونون معه لتقديم ابتهالات خالدة، لا تزال تُبث كل رمضان حتى اليوم.
أصوات خالدة.. إرث روحاني يبقى للأبد
ما يجمع بين هؤلاء القرّاء هو أنهم لم يكونوا مجرد أصوات جميلة بل كانوا جسرًا بين القرآن وقلوب المستمعين.
تلاواتهم ليست مجرد تسجيلات، بل هي ذكرى رمضان التي تعيدنا إلى أجواء الطفولة والإيمان وهي ركن أساسي من روحانية هذا الشهر الفضيل.
ومع كل أذان مغرب، وكل صلاة تراويح، ستظل أصواتهم تتردد، كأنهم لم يغيبوا أبدًا بل تركوا لنا نورًا نهتدي به في ليالي الشهر الكريم.

