إذاعة القرآن الكريم.. 61 عامًا من الريادة في الإعلام الديني

على مدى أكثر من ستة عقود، لم تكن إذاعة القرآن الكريم مجرد محطة بث ديني بل أصبحت صرحًا إعلاميًا شامخًا يحمل رسالة الإسلام إلى العالم مقدمًا القرآن الكريم بأصوات كبار المقرئين إلى جانب برامج دينية متنوعة تغطي كل ما يهم المسلم في حياته اليومية.
انطلقت في 25 مارس 1964، ولم تتوقف عن التطور والتأثير، حتى أصبحت مرجعًا رئيسيًا للقرآن الكريم في العالم الإسلامي، وساهمت في الحفاظ على الهوية الدينية لملايين المسلمين في شتى بقاع الأرض.
البداية.. استجابةً لخطر تحريف المصحف الشريف
في أوائل الستينيات، ظهرت نسخ غير دقيقة من المصحف الشريف، مما أثار قلق علماء الأزهر الشريف ووزارة الأوقاف المصرية حيث رأوا في هذا الأمر خطرًا جسيمًا على المسلمين.
ومن هنا نشأت فكرة إنشاء إذاعة متخصصة في بث القرآن الكريم بصوت كبار المقرئين، لضمان وصول التلاوة الصحيحة إلى الجميع.
حظيت الفكرة بدعم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، الذي بارك إطلاق الإذاعة كجزء من دور مصر في نشر تعاليم الإسلام الصحيح، فتم تخصيص تردد خاص بها، وانطلقت يوم 25 مارس 1964 بأول بث لها، حيث بدأ بقراءة المصحف المرتل بصوت الشيخ محمود خليل الحصري، ليكون بذلك أول مصحف يُبث عبر إذاعة رسمية في العالم الإسلامي.
إرثٌ من التلاوات.. إذاعة تربّت عليها أجيال من المسلمين
كبار المقرئين على أثير الإذاعة
نجحت إذاعة القرآن الكريم في جمع عمالقة التلاوة المصرية، الذين أصبحوا رموزًا عالمية في فن التلاوة والتجويد، ومن بينهم:
الشيخ مصطفى إسماعيل: الذي تميّز بقوة الأداء وتنقّله بين المقامات الصوتية بإبداع فريد.
الشيخ عبد الباسط عبد الصمد: الصوت الذهبي الذي أسر القلوب وأصبح علامة مميزة للتلاوة المصرية.
الشيخ محمد صديق المنشاوي: الذي لُقّب بـ”القارئ الباكي” بسبب تأثيره العاطفي العميق.
الشيخ محمود علي البنا: الذي عُرف بأسلوبه الرصين وإحساسه المرهف في التلاوة.
لم يكن تأثير هؤلاء القرّاء محصورًا في مصر فقط، بل امتد إلى كل أنحاء العالم الإسلامي، حيث اعتمدت الإذاعات الإسلامية الأخرى تسجيلاتهم كمرجعية أساسية لتعليم التلاوة الصحيحة.
التطور التقني والمحتوى الإذاعي.. من البث المحدود إلى 24 ساعة يوميًا
التوسع في ساعات الإرسال
عند انطلاقها، كانت الإذاعة تبث لساعات محدودة يوميًا، لكن مع تزايد الإقبال الجماهيري والتطورات التقنية، تم توسيع البث تدريجيًا ليصل إلى 24 ساعة يوميًا ما أتاح مساحة أكبر لتقديم محتوى متنوع يخدم المستمعين.
تنوع البرامج الدينية
لم تقتصر الإذاعة على بث التلاوات القرآنية فقط، بل أضافت مع الوقت مجموعة من البرامج الدينية المتميزة التي تتناول تفسير القرآن، الفتاوى، الفقه الإسلامي، والسيرة النبوية، ومن أشهرها:
“الموسوعة القرآنية”: برنامج متخصص في تفسير القرآن بأسلوب مبسط.
“الدين المعاملة”: يناقش القيم الأخلاقية المستمدة من الإسلام في الحياة اليومية.
“في روضة الرسول”: يستعرض سيرة النبي محمد ﷺ بأسلوب قصصي شيّق.
“أركان الإسلام”: يُقدّم شرحًا وافيًا لأركان الدين وأحكام العبادات.
“أضواء على العالم الإسلامي”: يناقش القضايا التي تهم المسلمين في مختلف الدول.
نقل الصلوات والاحتفالات الدينية مباشرةً
في عام 1977، توسّع دور الإذاعة ليشمل نقل صلاة الجمعة مباشرةً من الجامع الأزهر وغيره من المساجد الكبرى كما بدأت بنقل الاحتفالات الدينية الرسمية مثل المولد النبوي وليلة القدر، بالإضافة إلى نقل صلاة التراويح والتهجد خلال شهر رمضان من الحرم المكي والمساجد الكبرى في العالم الإسلامي.
مواجهة التحديات الفكرية.. دور ريادي في الإعلام الديني
لم تكتفِ إذاعة القرآن الكريم بنقل التلاوات، بل أصبحت خط الدفاع الأول ضد الأفكار المتطرفة والإلحاد حيث خصصت برامج لمواجهة الشبهات الفكرية والرد على الاستفسارات الدينية من خلال علماء الأزهر، مما عزّز دورها في نشر الفكر الإسلامي الوسطي، بعيدًا عن الغلو والتطرف.
وقدمت برامج تستهدف الشباب، لمساعدتهم في فهم الإسلام بطريقة صحيحة، وتعزيز الهوية الإسلامية لديهم، مما جعلها واحدة من أهم الأدوات الإعلامية في محاربة الفكر المنحرف.
أصوات خالدة.. روّاد العمل الإذاعي في إذاعة القرآن الكريم
على مدار عقود، قدّمت الإذاعة نخبة من المذيعين المتميزين الذين تركوا بصمتهم في تاريخ الإعلام الديني، ومنهم:
الدكتور كامل البوهي: الذي كان أحد أعمدة الإذاعة وأحد أبرز مقدمي البرامج الدينية.
الدكتور عبد الصمد دسوقي: الذي عُرف بأسلوبه الرصين في تقديم البرامج التفسيرية.
الدكتورة هاجر سعد الدين: أول سيدة تتولى رئاسة إذاعة القرآن الكريم، ولعبت دورًا بارزًا في تطوير محتواها.
انتشار عالمي.. إذاعة تتجاوز الحدود
بعد 61 عامًا من انطلاقها، لم تعد إذاعة القرآن الكريم مقتصرة على البث الأرضي، بل توسّع نطاقها ليشمل:
البث عبر الأقمار الصناعية: مما مكّن المستمعين في مختلف دول العالم من متابعتها بسهولة.
البث عبر الإنترنت: حيث يمكن الاستماع إلى برامجها وتلاواتها عبر موقعها الرسمي والتطبيقات الذكية.
وجودها في الإذاعات الدولية: حيث تبث في العديد من الدول الإسلامية عبر ترددات محلية.
صوت لا ينقطع يحمل رسالة الإسلام إلى الأجيال القادمة
بعد أكثر من ستة عقود، لا تزال إذاعة القرآن الكريم تحتفظ بمكانتها كإحدى أهم الإذاعات الإسلامية في العالم، فهي ليست مجرد وسيلة إعلامية، بل مرجع ديني وفكري ساهم في نشر التلاوة الصحيحة، وتثقيف المسلمين، والتصدي للأفكار الهدامة.
بفضل التزامها برسالتها السامية، أصبحت الإذاعة رمزًا للإعلام الديني الرصين، وشريكًا في تشكيل الوعي الإسلامي المستنير، لتظل صوتًا لا ينقطع، يحمل نور القرآن إلى كل بيت وكل قلب، في الحاضر والمستقبل.