رمضان.. هل هو محطة مؤقتة أم انطلاقة لحياة إيمانية متوازنة؟

يعيش المسلمون في شهر رمضان أجواءً روحانية فريدة، حيث تزداد الطاعات، ويقبل الناس على الصلاة، وقراءة القرآن، وصلة الرحم، والصدقات.
لكن السؤال الأهم الذي يطرح نفسه هو: هل يبقى أثر رمضان بعد انقضائه، أم يعود البعض إلى ما كانوا عليه من تراجع في العبادات؟ وهل يمكن للمسلم أن يحافظ على روحانيات الشهر الفضيل طوال العام؟
في هذا التحقيق، نسلط الضوء على مفهوم العبادات بعد رمضان، والعوامل التي تساعد المسلم على الثبات، وكيفية جعل رمضان نقطة انطلاق لحياة إيمانية متوازنة، وذلك من خلال لقاء خاص مع فضيلة الأستاذ الدكتور نظير عياد، مفتي الجمهورية ورئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم.
رمضان.. مدرسة روحية وتربوية عظيمة
يرى الدكتور نظير عياد أن شهر رمضان المبارك يُعد مدرسة روحية وتربوية عظيمة تُهذب النفوس، وتُربي الإنسان على معاني الصبر، والتقوى، والالتزام.
ويوضح أن رمضان ليس مجرد شهر للصيام والقيام، بل هو محطة إيمانية يتزود منها المسلم بالطاعات، ليستمر عليها بعد انتهاء الشهر الكريم.
ويؤكد مفتي الجمهورية أن رمضان يُعتبر اختبارًا عمليًا لمدى قدرة الإنسان على الاستمرار في الطاعة، وهو ما ينعكس على سلوكه بعد الشهر الفضيل. ويضيف أن العبرة ليست بكثرة الطاعات في رمضان، وإنما بمدى نجاح المسلم في تحويل هذه الطاعات إلى سلوك دائم في حياته اليومية.
الصيام.. منهج متكامل لتحقيق التقوى
يتحدث المفتي عن مفهوم الصيام، موضحًا أنه لا يقتصر فقط على الامتناع عن الطعام والشراب، بل هو منهج متكامل يُزكي النفس ويُهذب الأخلاق، ويُعلم الإنسان الصبر، وكبح الشهوات، والتحكم في رغباته.
ويستشهد بقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، موضحًا أن الهدف الأسمى من الصيام هو تحقيق التقوى، أي أن يكون الإنسان مراقبًا لله في كل أفعاله وأقواله، في رمضان وبعده، لأن التقوى ليست عبادة موسمية، بل هي أسلوب حياة ينبغي أن يستمر طوال العام.
اختبار العبادات بعد رمضان.. القبول أم التراجع؟
يؤكد المفتي أن هناك فئة من المسلمين تحافظ في رمضان على الصلاة في أوقاتها، وقراءة القرآن، والذكر، والصدقات، وصلة الرحم، لكنها تتراجع عن هذه العبادات بعد انقضاء الشهر الكريم.
ويُشير إلى أن العلماء أكدوا أن علامة قبول الطاعات هي الاستمرار عليها بعد انتهاء وقتها، مستشهدًا بقول السلف الصالح: “من علامات قبول الحسنة أن يُتبعها العبد بحسنة أخرى”.
ويضيف أن المسلم الذي يتراجع عن العبادات بعد رمضان قد يكون لم يستوعب الدرس الحقيقي لهذا الشهر، حيث إن العبادة لا تنتهي بانتهاء رمضان، بل يجب أن تتحول إلى سلوك دائم في حياة الإنسان.
كيف نثبت على الطاعة بعد رمضان؟
يوضح مفتي الجمهورية أن الاستمرار في الطاعة بعد رمضان يحتاج إلى عدة أمور أساسية، أبرزها:
الصحبة الصالحة: التي تُعين المسلم على الخير وتحفزه على مواصلة الطاعات.
البيئة الإيمانية: التي تُشجع على العبادة وتُبعد الإنسان عن المعاصي.
التخطيط الجيد لما بعد رمضان: بوضع برنامج يومي للعبادات، حتى وإن كان بسيطًا، لأن النبي ﷺ قال: “أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قلّ”.
كما يُشير إلى أن هناك عوامل تؤدي إلى التراجع بعد رمضان، ومنها ضعف الوازع الديني، والانشغال بمشاغل الدنيا، والانجراف وراء العادات اليومية التي قد تبعد الإنسان عن الطاعة، إضافة إلى التأثير السلبي لبعض وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي التي تُروج لمظاهر اللهو والغفلة بعد الشهر الكريم.
الإسلام لا يعرف العبادات الموسمية
يشدد المفتي على أن الله لا يُحب العبادات الموسمية، التي يؤديها الإنسان في رمضان فقط ثم يتركها بعد ذلك. ويوضح أن الإسلام لم يجعل الطاعات محصورة في شهر معين، بل جعلها ممتدة على مدار العام، مشيرًا إلى أن هناك عبادات يُمكن الاستمرار عليها بعد رمضان مثل:
صيام النوافل، مثل صيام الستة من شوال، وصيام الاثنين والخميس، وصيام الأيام البيض.
قيام الليل، حتى لو بركعتين في جوف الليل.
الذكر والاستغفار، وجعلها وردًا يوميًا ثابتًا.
ويؤكد أن من أراد الثبات على الطاعة بعد رمضان، فعليه أن يجعل لنفسه وردًا يوميًا من العبادات، ولو كان قليلًا، لأن الاستمرار هو الأهم، وليس الكثرة المؤقتة.
التوازن بين العبادة ومتطلبات الحياة
يؤكد مفتي الجمهورية أن الإسلام دين يوازن بين الروح والجسد، ولم يُطالب الإنسان بأن يكون في قمة نشاطه وعبادته طوال الوقت، لأن ذلك قد يؤدي إلى الإرهاق ثم الترك، مستشهدًا بحديث النبي ﷺ: “خذوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا”.
ويُشير إلى أن العبادة ليست فقط صلاة وصيامًا، بل تشمل كل أعمال الخير، مثل:
أداء العمل بإخلاص.
التعامل مع الناس بأخلاق حسنة.
مساعدة المحتاجين والإحسان إلى الفقراء.
بر الوالدين وصلة الرحم.
ويؤكد أن هذه الأعمال كلها عبادات يُؤجر عليها الإنسان إذا قصد بها وجه الله، وهو ما يساعده على الثبات بعد رمضان.
رسالة المفتي: رمضان بداية جديدة وليس محطة مؤقتة
يُوجه مفتي الجمهورية رسالة إلى المسلمين، مؤكدًا أن رمضان ليس مجرد شهر عابر، وإنما هو بداية جديدة للتوبة والطاعة.
ويشدد على أن المسلم الحقيقي هو من يجعل رمضان نقطة انطلاق لحياة إيمانية متوازنة، بحيث لا يعود إلى المعاصي بعده، ولا يتوقف عن العبادات التي اعتاد عليها.
ويختم فضيلته حديثه بقوله:
“اجعلوا من رمضان بداية جديدة للطاعة، ولا تجعلوه محطة مؤقتة في حياتكم، فمن استمر في العبادة بعد رمضان فليبشر، لأن ذلك من علامات القبول عند الله. وأسأل الله أن يتقبل منا جميعًا، ويجعلنا من عباده الصالحين”.