«جيل الزحام الرقمي».. تحقيق يكشف كيف يعيش الشباب داخل الشاشات وخارج الحياة
خبراء لـ«اليوم»: الأطفال أصبحوا ضحايا للهواتف.. لا بد من إحداث التوازن قبل فوات الأوان

تحقيق- محمود عرفات
في زمن تتقاطع فيه ضغوط العصر، وسرعة التكنولوجيا، وتغيرات السلوك المجتمعي، يواجه جيل جديد من الأطفال والمراهقين تحديات لم تعرفها أجيال سابقة. هذا الجيل الذي وُلد في قلب الزحام الرقمي، يتشكل وجدانيًا وسلوكيًا على وقع الإشعارات والتنبيهات، وسط تراجع في الحضور الأسري، وتزايد الاعتماد على وسائل التواصل كوسيلة تنشئة بديلة.
بين التكنولوجيا والعزلة النفسية
من جانبها قالت د. إسراء جميل أستاذ علم النفس بكلية التربية جامعة الزقازيق إن الجيل الحالي يمر بمرحلة من “التشبع التكنولوجي” المبكر، ما ينعكس على قدرته على التركيز، التفاعل الاجتماعي، والصحة النفسية.
وأضافت في تصريح خاص لجريدة “اليوم” أن الإفراط في استخدام الأجهزة الرقمية أضعف الروابط الأسرية ورفع نسب التوتر، وأدى إلى شيوع مشاعر القلق والاكتئاب بين الأطفال”، مشيرة إلى أن “الأطفال لا يتعلمون فقط من التطبيقات، بل من المحتوى الذي قد لا يكون مناسبًا لعمرهم، ما يخلق تشويشًا إدراكيًا وسلوكيًا”.
وأكدت أن إدمان تصفح الموبايلات مع مرور الوقت يجعل الإنسان مصابا بضعف في التواصل مع الآخرين، ويكون أقل قدرة في التعبير عن ما يريد توصيله من معلومات لاعتماده على كتابة الرسايل، مشيرة إلى أنه لا بد من إحداث التوازن المطلوب بين الجلسات العائلية بعيدا عن الهواتف المحمولة، وبين تصفح برامجه، لافتة إلى أن ذلك لا يتأتى عن طريق القوة والغصب، بل الاستعانة بذلك عن طريق مكافآت وهدايا يعطيها ولي الأمر لابنه إذا ابتعد لعدد من الساعات الهاتف المحمول، مؤكدة أنه بمرور الوقت سيعتاد على عدم وجوده.
الزحام الرقمي.. وتأثيره التنموي
من جهته أوضح الخبير التنموي د. شريف عبد العليم، أن هذا الجيل محاصر بين نداءات السوق الرقمي، وأعباء التعليم، وضعف المساحات المفتوحة للعب والتواصل الواقعي، لافتا إلى أن الطفولة أصبحت تقاس بعدد ساعات الشاشة، لا بعدد القصص التي تُروى أو الأشجار التي تُتسلق”، مؤمن أن الخلل في التوازن بين العالم الرقمي والواقعي سيولد فجوة مهارية وإنسانية إذا لم يتم التدخل مبكرًا”.
وأكد الخبير التنموي في تصريح خاص لجريدة “اليوم” أن الاعتماد الزائد على التكنولوجيا يخلق جيلًا سريع الاستجابة لكنه ضعيف في التحمل، كثير المعرفة السطحية، لكنه يعاني من الفقر في الخبرة الحقيقية، نحن بحاجة إلى برامج دعم تربوي وتنموي تعيد التوازن بين التكنولوجيا والواقع، وتعيد للطفولة معناها.”
شهادات أولياء الأمور: القلق يزداد يومًا بعد يوم
في حديثنا مع عدد من أولياء الأمور، بدت مشاعر القلق والخوف واضحة. تقول السيدة منى، والدة مراهق في الصف الأول الثانوي: “ابني بيقضي أغلب وقته في أوضته، دايمًا ماسك الموبايل، وبقى عصبي جدًا، لما بكلمه يرد بكلمة أو يتضايق، وكل شوية بشوف على موبايله حاجات مش مناسبة لسنه.”
أما الأستاذ أحمد، والد لطفلين في المرحلة الإعدادية، فيقول: “أنا مش ضد التكنولوجيا، بس ولادي مش عارفين يفصلوا. بيلعبوا ألعاب ليل نهار، وبيتفرجوا على فيديوهات غريبة، ومفيش وقت للأسرة أو الدراسة. حاولت أعمل جدول بس مقدرتش ألتزم بيه بسبب ضغط المدرسة والشغل.”
بينما تشير أم يوسف، وهي موظفة، إلى خطر أكبر: “ابني مرة جالي منهار، بيقولي إنه مش حلو زي الولاد اللي بيشوفهم على الإنترنت. حسيت إني لازم أرجع أتكلم معاه وأقعد معاه أكتر.”
ما العمل؟
يدعو الخبراء إلى إعادة ضبط العلاقة بين الأجيال الجديدة والتكنولوجيا. الحل لا يكمن في المنع، بل في التوازن. الرقابة الناعمة، الحوار المستمر، وتوفير البدائل التفاعلية الواقعية هي مفاتيح التغيير. وفي ظل الزحام الرقمي، يظل حضور الأسرة هو “الواي فاي” الأهم لربط الطفل بالواقع، والقيمة، والاتزان النفسي.
من جانبه أكد المهندس وائل عبدالسلام، خبير أمن معلومات، أن: “الزحام الرقمي ليس فقط أزمة اجتماعية، بل بوابة لمخاطر أمنية كبيرة، خاصة على المراهقين. الحسابات المزيفة، والتنمر الإلكتروني، ومحتوى العنف، كلها تتسلل بسهولة لعقول صغار السن دون رقابة.
وأضاف في تصريح خاص لجريدة “اليوم”: الأطفال والمراهقون لم يُمنحوا الوقت الطبيعي لتشكيل هويتهم النفسية، الإنترنت أخذ هذه المساحة، وبدلاً من أن يعبروا عن أنفسهم، أصبحوا يتقمصون حياة غيرهم.، مؤكدًا أن غياب البدائل الواقعية هو السبب الأهم في تفاقم الظاهرة، وتابع قائلًا: “لم نوفّر للأبناء بيئة بديلة تملأ الفراغ العاطفي والذهني، فكان الحل السهل هو الإنترنت، ولكنّ الخطورة هنا أن الإنترنت لا يربي، بل يُشتّت، ولا يمنحهم الشعور بالأمان والهوية، بل يغرقهم في موجات متلاحقة من الضغط والتشتت.”
أمثلة من الواقع:
– شاب في المرحلة الثانوية فقد تركيزه الدراسي بعد إدمان الفيديوهات القصيرة.
– طفلة في 11 من عمرها تتلقى جلسات علاج نفسي بسبب قلق حاد نتيجة مقارنة شكلها بغيرها على “إنستغرام”.
– مراهق لم يعد يتفاعل مع أسرته ويقضي 14 ساعة يوميًا بين الألعاب والتطبيقات.
مبادرات مجتمعية: حلول تُحاول
رغم خطورة الظاهرة، بدأت بعض المبادرات في التصدي لها. منها ورش تدريبية في المدارس بعنوان “حياتك مش أونلاين”، وحملات توعية على منصات التواصل نفسها، إلى جانب تجارب لبعض الأندية الثقافية التي توفر مساحات ترفيهية وتعليمية خارج الشاشات. لكن تبقى تلك الجهود في بدايتها.
دعوة للتوازن
الزحام الرقمي ليس قدرًا محتومًا، لكنه واقع يحتاج إلى وعي واحتواء. الحل ليس في إغلاق الإنترنت، بل في فتح النوافذ على حياة أكثر توازنًا. أن نصنع لأبنائنا لحظات واقعية حقيقية، نتحدث إليهم، نستمع إليهم، ونمنحهم انتماءً أكبر خارج الشاشة.