تتجه القلوب إلى كتاب الله، حيث تتجدد العلاقة مع القرآن من خلال التلاوة والتدبر ومن أول ما نقرأ في هذا الشهر الكريم سورة البقرة، أطول سور القرآن، التي تقدم لنا منهجًا شاملًا لحياة الإنسان في الأرض.
لماذا هذه السورة بالتحديد؟
سورة البقرة ليست مجرد مجموعة من الأحكام والقصص، بل هي بمثابة وثيقة إلهية تحدد طبيعة مهمة الإنسان في الأرض، ألا وهي الاستخلاف، أي إدارة الأرض وفق منهج الله.
ولهذا السبب، نجد أن السورة تضع أمامنا ثلاثة نماذج من البشر، كل واحد منها يمثل استجابة مختلفة لمسؤولية الاستخلاف:
1. آدم عليه السلام: الإنسان الأول الذي كُلِّف بالاستخلاف، لكنه تعرض للفتنة وسقط في الخطأ، ثم تاب وأناب.
2. بني إسرائيل: أمة كُلِّفت بحمل الرسالة، لكنها فشلت في الامتحان بسبب العصيان والتخاذل.
3. إبراهيم عليه السلام: النموذج المثالي للاستخلاف، الذي نجح في الامتحان بامتياز بفضل طاعته المطلقة لله.
أسماء وخصائص سورة البقرة
تحمل سورة البقرة عدة أسماء، وكل اسم يعكس جانبًا من مضمونها:
البقرة: نسبة إلى قصة بقرة بني إسرائيل التي تعكس طبيعة الجدل والعناد عند تلقي أوامر الله.
الزهراء: أي أنها سورة مضيئة تهدي القلوب.
سنام القرآن: لأنها أعلى سور القرآن شأنًا من حيث الأحكام والتوجيهات.
فسطاط القرآن: أي أنها مظلة كبيرة تجمع تحتها الكثير من الأحكام والتشريعات.
خصائص سورة البقرة
أول سورة نزلت في المدينة المنورة، وجاء نزولها على فترات لتنظيم المجتمع الإسلامي الجديد.
أطول سور القرآن، حيث تضم 286 آية.
تحتوي على أعظم آية في القرآن وهي آية الكرسي، التي تتحدث عن عظمة الله وقدرته المطلقة.
تضم أطول آية في القرآن، وهي آية الدَّين التي تحدد ضوابط التعاملات المالية وتوثيق الحقوق.
فضل سورة البقرة
تحصن البيوت من الشياطين، حيث ورد في الحديث أن الشيطان لا يدخل بيتًا تُقرأ فيه سورة البقرة.
تحمي الإنسان من السحر والحسد، ولذلك أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بقراءتها بانتظام.
تحوي اسم الله الأعظم الذي إذا دُعي به استجاب.
تظل صاحبها يوم القيامة، حيث تأتي كغمامة تدافع عنه أمام الله.
القضية المحورية في السورة: الاستخلاف في الأرض
يركز الجزء الأول من سورة البقرة على قضية جوهرية تمس كل إنسان، وهي الاستخلاف.
بمعنى آخر، كيف يجب أن يدير الإنسان الأرض وفق أوامر الله؟
هل نحن مستعدون لتحمل المسؤولية؟
هل سنلتزم بمنهج الله في الحياة، أم سنخضع لأهوائنا؟
هل سنحكم بالعدل وننشر الخير، أم سنتبع الشيطان ونغرق في الفساد؟
ثلاثة نماذج للاستخلاف
سورة البقرة تقدم لنا ثلاث شخصيات رئيسية، كل منها يمثل نموذجًا مختلفًا للاستخلاف:
1. آدم عليه السلام: خليفة في الأرض، لكنه وقع في الخطأ بسبب خداع الشيطان، لكنه تاب فغفر الله له.
2. بنو إسرائيل: شعب كُلِّف بحمل الرسالة، لكنه فشل بسبب العصيان والجدل والتخاذل.
3. إبراهيم عليه السلام: نموذج القائد الناجح الذي أطاع الله في كل شيء ونجح في الابتلاءات.
المحور الأول: آدم عليه السلام وصراع الإنسان مع الشيطان
آدم هو أول خليفة في الأرض، لكنه واجه التحدي الأكبر: إبليس.
تسرد السورة كيف نجح الشيطان في إغواء آدم وحواء، مما أدى إلى نزولهما إلى الأرض، ليبدأ التحدي الحقيقي: هل سيتوب الإنسان ويعود إلى الله، أم سيتمادى في العصيان؟
دروس مستفادة من قصة آدم عليه السلام
1. الله يعلم الغيب: عندما قال الله للملائكة إنه سيجعل في الأرض خليفة، كان يعلم ما سيحدث مسبقًا.
2. الكرامة لا تكون بالمكانة أو الشكل، بل بالإيمان والطاعة: إبليس رفض السجود لآدم لأنه رأى نفسه أفضل، لكن العبرة ليست بالمادة التي خُلق منها الإنسان، بل بإيمانه وعمله.
3. الشيطان هو العدو الأول للإنسان: وسيظل يوسوس له حتى يوقعه في المعصية.
4. عدم الاقتراب من الذنوب: الله لم يقل لآدم “لا تأكل من الشجرة”، بل قال “لا تَقْرَبَا”، أي لا تقترب حتى لا تسقط في المعصية
5. باب التوبة مفتوح دائمًا: آدم أخطأ لكنه تاب، فقبله الله، وهذا يوضح أهمية التوبة الفورية عند الوقوع في الخطأ.
المحور الثاني: بني إسرائيل والفشل في الاستخلاف
تُخصص سورة البقرة جزءًا كبيرًا من آياتها للحديث عن بني إسرائيل، الذين كانوا نموذجًا للفشل في تحمل مسؤولية الاستخلاف.
نِعَم الله على بني إسرائيل
أنجاهم من بطش فرعون عندما شق البحر لهم.
أنزل عليهم المنّ والسلوى طعامًا خاصًا لهم في الصحراء.
أنعم عليهم بالغمام ليحميهم من الحر.
أرسل لهم التوراة لتكون لهم منهجًا للهداية.
كيف قابلوا هذه النعم؟
عبدوا العجل بعد خروجهم من البحر!
طلبوا رؤية الله جهرة وكأنهم لا يصدقون بوجوده.
حرفوا كلام الله وغيروا أوامره.
تكاسلوا في تنفيذ أوامر الله مثلما فعلوا في قصة ذبح البقرة، حيث راوغوا كثيرًا قبل الامتثال.
استبدلوا طعام الجنة بالعدس والبصل، مما يعكس نفسية المتذمرين الذين لا يرضون بما لديهم.
أخذوا من الدين ما يناسبهم وتركوا ما يخالف أهواءهم.
المحور الثالث: إبراهيم عليه السلام.. النموذج الناجح للاستخلاف
على عكس بني إسرائيل، يعرض القرآن نموذجًا آخر للاستخلاف، وهو إبراهيم عليه السلام.
لماذا نجح إبراهيم في الاستخلاف؟
1. استسلم لأمر الله تمامًا: عندما أمره الله بذبح ابنه إسماعيل، لم يتردد لحظة.
2. تحمل الابتلاءات بصبر وثبات: واجه النار، وهاجر من وطنه، لكنه لم يشتكِ أبدًا.
3. أقام التوحيد في الأرض: بناء الكعبة كان مشروعه الأعظم لنشر الإيمان.
