مقالات

أحمد فؤاد يكتب: صلاة التهجد.. عبادة الخاشعين وطريق المقربين

صلاة التهجد.. عبادة الخاشعين في سكون الليل، حيث تهدأ الأصوات وتنام العيون، هناك قلوب تنبض بالإيمان، وأرواح تتوق إلى القرب من الله، فتقف بين يديه، تناجيه وتبثه همومها، وترجوه المغفرة والرحمة. إنها صلاة التهجد، التي تُعد من أسمى العبادات وأعظم القربات التي يتقرب بها المسلم إلى ربه، حيث يعيش فيها لحظات من الخشوع والتضرع، بعيدًا عن صخب الحياة وضجيجها.

لقد كان النبي ﷺ وصحابته الكرام يُحافظون على التهجد، إدراكًا لعظيم فضلها، فهي نورٌ في القلب، وراحةٌ في النفس، وسكينةٌ تملأ الروح. فهي صلاة لا يؤديها إلا من أراد القرب من الله بصدق، حيث قال تعالى: “وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا” (الإسراء: 79). إنها صلاة تجعل العبد يشعر بعظمة الوقوف بين يدي الله، بعيدًا عن أعين الناس، في لحظات لا يراه فيها أحد سوى خالقه.

صلاة التهجد هي إحدى صور قيام الليل، لكنها تختص بأنها تُؤدى بعد النوم، ولو لفترة قصيرة، في إشارة إلى أن المسلم ضحّى بلحظات راحته لأجل لقاء ربه. وما أعظم هذا الشعور حينما يستيقظ الإنسان في ظلمة الليل، فيقوم ويتوضأ، ثم يقف في محرابه، يرفع يديه بالدعاء، ويسجد لله بتذلل وخضوع، طالبًا منه الهداية والمغفرة.

وقد وعد الله أهل التهجد بأجر عظيم، فهم ممن قال فيهم: “كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ” (الذاريات: 17-18). فهؤلاء القليلون هم الذين عرفوا قيمة هذه العبادة، فحرصوا عليها، وجعلوها جزءًا من حياتهم، فأكرمهم الله بالطمأنينة في الدنيا، وبمقام محمود في الآخرة.

لا شك أن أفضل أوقات التهجد هو الثلث الأخير من الليل، حيث يتنزل الله برحمته إلى السماء الدنيا، فينادي: “هل من داعٍ فأستجيب له؟ هل من مستغفر فأغفر له؟” (رواه البخاري ومسلم). يا لها من لحظات عظيمة، يُفتح فيها باب القبول، وتكون فيها الاستجابة أقرب ما يكون، مما يجعل المسلم يحرص على اغتنامها بكل ما أوتي من جهد.

وفي شهر رمضان، تزداد أهمية صلاة التهجد، خاصة في العشر الأواخر، حيث يتحرى المسلمون ليلة القدر، التي هي خير من ألف شهر. فتجد المساجد تمتلئ بالمصلين، الذين يأتون لإحياء ليالي رمضان بالصلاة والذكر والدعاء، راجين من الله أن يكتب لهم المغفرة والعتق من النار. إنها أجواء روحانية مميزة، حيث يجتمع الخشوع مع الأمل، والخضوع مع الرجاء، في مشهد يفيض بالإيمان.

إن صلاة التهجد ليست مجرد ركعات يؤديها المسلم، لكنها رحلة روحية تسمو بالنفس، وتُطهِّر القلب، وتُزيل الهموم. هي لحظات صدق بين العبد وربه، يتحدث إليه بلا وسيط، ويبثه شكواه، ويطلب منه العون والهداية. فكم من دعوة أجيبت في التهجد، وكم من قلب وجد راحته في هذه الصلاة، وكم من همّ انزاح بسجدة في جوف الليل.

فلنحرص على أن يكون لنا نصيبٌ منها، ولو بركعتين، فالبركة في القليل، والله يجازي على النوايا قبل الأعمال. ومن ذاق حلاوة التهجد والمناجاة في ظلمة الليل، لم يفرط فيها أبدًا، لأنها ليست مجرد صلاة، بل لقاء مع الله، حيث تفيض القلوب بالخضوع، وتُرفع الأيدي بالرجاء، وتتنزل الرحمات، في لحظات لا تُقدَّر بثمن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights