تقارير-و-تحقيقات

الوقوف بعرفة.. ركن الحج الأعظم بين التوقيت الصحيح والأخطاء الشائعة

 

تقرير: مصطفى على

تُعدّ “عرفة” من أعظم أيام السنة وأقدسها عند المسلمين، فهي ليست فقط محطة من محطات مناسك الحج، بل هي ركنه الأعظم الذي قال فيه النبي ﷺ: «الحج عرفة»، مشيرًا بذلك إلى مركزية هذا اليوم في شعيرة الحج. الوقوف بعرفة هو لحظة روحية سامية، يذوب فيها الحاج في مناجاة خالقه، ويندفع فيها بالدعاء والابتهال والتضرع على صعيدٍ شهد أعظم مشهد ديني عرفته الأرض، حيث وقف خاتم الأنبياء ﷺ وألقى خطبته الجامعة.

في هذا التقرير، نسلط الضوء على توقيت الوقوف بعرفة، حكمه، كيفية أدائه، وأبرز الأخطاء التي يقع فيها الحجاج، من خلال ما جاء في القرآن الكريم، والسنة النبوية، وآراء العلماء والمجامع الفقهية.

أولًا: متى يبدأ الوقوف بعرفة ومتى ينتهي؟

وقت الوقوف المشروع شرعًا

أجمع العلماء على أن يوم عرفة هو التاسع من شهر ذي الحجة، ويبدأ وقت الوقوف به من زوال الشمس (أي بعد الظهر) من هذا اليوم، ويستمر حتى طلوع فجر يوم النحر، أي فجر يوم العيد (العاشر من ذي الحجة).

وقد قال الشيخ علي فخر، أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية، إن الوقوف بعرفة الصحيح يبدأ من الزوال أي من وقت صلاة الظهر وهو ما اتفقت عليه جماهير العلماء، ويُعدّ هذا الوقت هو الأفضل شرعًا.
وأضاف أن الوقوف يتحقق حتى لو كان للحظة واحدة ضمن هذا التوقيت، فإذا وقف الحاج في أي وقت من بعد الزوال إلى طلوع فجر يوم النحر فقد أدرك الوقوف.

التوقيت الفقهي الموسّع للوقوف

بينما يُعتبر وقت الزوال هو الأفضل، إلا أن جمهور الفقهاء اتفقوا على أن من وقف قبل الغروب فقط فعليه دم، أما من وقف بعد الغروب فلا شيء عليه، وإن كان قد فاته المبيت بمزدلفة، وهو واجب آخر.

من جهة أخرى، يرى الحنابلة توسعة في الوقت، فيجيزون الوقوف حتى من قبل الزوال، فإن وقف الحاج قبله ثم خرج بعد الفجر، فقد أدرك الوقوف، وإن كان عليه دم عندهم واستندوا في ذلك إلى حديث الصحابي الجليل عروة بن مُضَرِّس الذي قال فيه النبي ﷺ: «مَن شَهِدَ صَلاتَنا هذه، ووقف معنا حتى ندفَع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلًا أو نهارًا، فقد أتمّ حجّه».

ثانيًا: موقع عرفة وحدوده الجغرافية والدينية

كلمة “عرفة” اسم لمكان معين معروف شرعًا، وهو أرض ذات حدود جغرافية شرعية تقع شرقي مكة. سُمّيت بذلك لأن الناس يتعارفون فيها، وقيل لأن جبريل عرّف فيها إبراهيم عليه السلام بمناسك الحج وقد ورد ذكر عرفة في القرآن الكريم بلفظ “عرفات” في قوله تعالى: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ﴾ [البقرة: 198].

ويمتد صعيد عرفات ليشمل مناطق واسعة، كلها موقف شرعي، لقول النبي ﷺ: «وقفت هاهنا، وعرفة كلها موقف» ولذلك، لا يشترط الوقوف في مكان بعينه، وإنما يكفي أن يكون الوقوف ضمن حدود عرفة الشرعية.

ثالثًا: الوقوف قبل الزوال وبعد الفجر.. هل يصح؟

أوضح الشيخ علي فخر أن من وقف بعرفة بعد الزوال ولو لحظةً، فإن وقوفه صحيح باتفاق الفقهاء. أما من وقف قبل الزوال فقط ثم غادر، ففي ذلك تفصيل:

رأي الجمهور: لا يُجزئ وقوفه، وحجه غير صحيح، لأنه لم يتحقق الوقوف في وقته المشروع.

رأي الحنابلة: يُجزئ، ولكن عليه دم، وهو رأي مستند إلى الحديث الشريف السابق.

كما أن من وقف جزءًا من الليل بعد الغروب وقبل الفجر ولم يقف نهارًا، فقد أدرك الوقوف، وإن كان بعض المالكية يرون وجوب الدم عليه إذا لم يكن مضطرًا.

رابعًا: الأخطاء الشائعة عند الوقوف بعرفة

1. النزول خارج حدود عرفة

يُعدّ هذا الخطأ من أفدح ما يمكن أن يرتكبه الحاج، إذ يفوّت على نفسه الحج كله دون أن يدري فقد ينزل الحجاج في أماكن قريبة ولكن خارج الحدود الشرعية، ولا يتأكدون من موقعهم، فيبقون هناك حتى تغرب الشمس ثم يغادرون إلى مزدلفة، وهم في الحقيقة لم يقفوا في عرفة، وحجهم بذلك باطل.

2. مغادرة عرفة قبل غروب الشمس

هذه المخالفة تُنافي سنة النبي ﷺ، الذي ظل واقفًا حتى غربت الشمس ولذلك، فإن الخروج من عرفة قبل الغروب يعدّ مخالفة صريحة، خاصة عند المالكية الذين يشترطون إدراك جزء من الليل، ويعتبرون الغروب جزءًا من ركن الوقوف.

3. استقبال جبل الرحمة بدلًا من القبلة

من الأخطاء المتكررة، أن يستقبل الحاج جبل الرحمة عند الدعاء، مع أن السنة النبوية تأمر باستقبال القبلة، لا الجبل، في الدعاء والابتهال. فالنبي ﷺ وقف مستقبلًا القبلة، رافعًا يديه، داعيًا الله حتى غربت الشمس، ولم يصعد الجبل أبدًا.

4. التلبية وعدم الجهر بها

ينبغي على الحاج أن يُكثر من التلبية، وخاصة عند المسير من منى إلى عرفة، لكن كثيرًا من الحجاج لا يجهرون بها، مع أن النبي ﷺ لبّى حتى رمى جمرة العقبة، والجهر بالتلبية سنة مؤكدة.

خامسًا: صعود جبل الرحمة.. هل هو منسك؟

نفى الشيخ علي فخر أن يكون صعود جبل الرحمة (وهو ما يعرفه العامة بجبل عرفة) من مناسك الحج، وأكد أنه لم يُنقل عن النبي ﷺ ولا الصحابة أنهم صعدوه بل ورد عن النبي ﷺ أنه وقف عند صخرات تحته، وقال: «وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف»، كما أوصى برفع الناس عن وادي عرنة لأنه خارج حدود عرفة.

ومن المعلوم أن صعود الجبل قد يسبب مشقة وزحامًا شديدًا، دون أن يكون له أصل في الشرع، مما يجعل هذا الفعل من البدع المحدثة، التي لا يُثاب فاعلها، بل تُخالف هدي النبي ﷺ.

سادسًا: الوقوف بعرفة حال النوم أو الإغماء

قال مجمع البحوث الإسلامية إن وقوف الحاج في عرفة وهو نائم أو مغمى عليه، جائز عند الحنفية، لأن الوقوف يتحقق بحصول الجسم في المكان في الوقت المحدد، ولو لم يكن الحاج واعيًا أما الجمهور، فرأوا أن المغمى عليه لا يُعدّ أهلًا للعبادة، فلا يُجزئ وقوفه.

ومع ذلك، فإن الرأي الراجح هو قول الحنفية، لأنه يعتمد على حقيقة وجود الحاج في المكان الصحيح في الوقت المحدد، ما يُحقّق المقصود من الركن.

سابعًا: أعمال يوم عرفة للحاج

التوجّه إلى عرفة بعد الشروق.

أداء صلاتي الظهر والعصر جمع تقديم بركعتين لكل منهما، بأذان وإقامتين.

المكث في عرفة إلى غروب الشمس.

الإكثار من الذكر والدعاء، واستقبال القبلة عند الدعاء.

مغادرة عرفة بعد غروب الشمس إلى مزدلفة.

ويُستحب في عرفة الدعاء المعروف: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير».

ثامنًا: الفرق بين أنواع الحج الثلاثة وأثرها على الوقوف بعرفة

1. حج الإفراد: ينوي الحاج الحج فقط دون عمرة، ويقف بعرفة كما سبق، ويؤدي المناسك دون أن يكون عليه هدي.

2. حج القِران: يجمع بين العمرة والحج في نية واحدة ومناسك واحدة، وعليه هدي. والوقوف بعرفة يتم كما في الإفراد.

3. حج التمتع: يؤدي العمرة أولًا في أشهر الحج، ثم يتحلل، ثم يحرم بالحج من جديد يوم الثامن، ويؤدي الوقوف بعرفة كسائر الحجاج.

عرفة… لحظة لقاء وركن لا يُعوّض

الوقوف بعرفة ليس مجرد تواجد جسدي في موقع جغرافي، بل هو لحظة لقاء روحي عظيم، فرصة سنوية للمغفرة والعتق من النار، وشرفٌ لا يُدركه إلا من كتب الله له الحج وإن الحجاج مسؤولون عن تحرّي الموقع والوقت الصحيحين، واجتناب المخالفات، ليُتمّوا حجّهم كما أمر الله، ويعودوا مغفورًا لهم بإذن الله.

ويبقى قول النبي ﷺ خير ختام: «الحج عرفة».

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights