أخبار

الشيخ عبد الباسط عبد الصمد.. أيقونة إبداع التلاوة

تضم مدرسة التلاوة المصرية العديد من الأسماء البارزة التي تعدت شهرتها حاجز الزمان والمكان.

أصوات من الجنَّة تشدو على الأرض، يمتازون بحلاوة الصوت ووضوح المخارج والتمكن من الأحكام والضوابط، فمصر هي مهد التلاوة، وغالبية مشاهير القراء مصريون علموا العالم الإسلامى أصول و«فن» التلاوة بأصوات عبقرية متفردة، وأرسى العديد منهم أسس التلاوة، وكانت تلاوتهم لآيات القرآن الكريم مثار إبهار وتعظيم لكل من استمع إليهم، واستمد من أصواتهم شغفا لفنون التلاوة والإنشاد الدينى الجميل.

من خلال سلسلة تقارير مميزة، يفتح موقع وجريدة «اليوم» نافذة على قصص هؤلاء العظماء، كاشفًا تفاصيل مسيرتهم الفريدة، وبصماتهم المؤثرة في عالم التلاوة، ودورهم في نشر رسالة القرآن الكريم إلى قلوب الملايين.

وفي هذا التقرير، نروي سيرة القارئ” الشيخ عبد الباسط عبد الصمد” الذي كانت تلاوته علامة فارقة، تاركًا إرثًا خالدًا في ذاكرة الأمة.

مولدة

في قرية المراعزة، التابعة لمدينة أرمنت بمحافظة قنا جنوب مصر، وُلد عبد الباسط محمد عبد الصمد عام 1927 في بيتٍ كرّس حياته لخدمة القرآن الكريم كان جده، الشيخ عبد الصمد، من أعلام حفظة القرآن الكريم والمميزين في تجويده أما والده، الشيخ محمد عبد الصمد، فكان أيضًا من حفظة القرآن وممن عرفوا بإتقانهم لأحكام التلاوة.

في هذا البيت القرآني، نشأ الطفل عبد الباسط محاطًا بالقرآن الكريم بدأ في حفظه في سن مبكرة، وتمكّن من إتمامه كاملًا وهو في العاشرة من عمره على يد الشيخ محمد الأمير بمدينة طيبة لم يكن الحفظ وحده إنجازه المبكر، بل أتقن أيضًا التجويد والقراءات السبع على يد الشيخ محمد سليم، الذي كان له دور كبير في تشكيل أسلوبه الفريد في التلاوة.

خطوات الشهرة الأولى: من قنا إلى السيدة زينب

بدأت مسيرة الشيخ عبد الباسط عندما لفت صوته العذب الأنظار في قريته والقرى المجاورة، حيث أُطلق عليه لقب “الفتى الموهوب” في الثانية عشرة من عمره، كان يُدعى لإحياء المناسبات الدينية في قرى محافظة قنا، وخاصة أصفون المطاعنة.

كانت لحظة الانطلاقة الحقيقية في عام 1950 عندما سافر إلى القاهرة لحضور مولد السيدة زينب كان الحفل مليئًا بالقراء العمالقة الذين يمثلون الرعيل الأول من قرّاء الإذاعة المصرية خلال الحفل، استأذن أحد أقاربه المنظمين لإعطاء الفتى عبد الباسط فرصة للتلاوة لمدة عشر دقائق.

تلى الشيخ عبد الباسط من سورة الأحزاب، وسرعان ما انتقل من قارئ صغير إلى نجم كبير، حيث عم الصمت في أرجاء المسجد، وتحوّلت الأنظار إلى هذا الصوت الذي يحمل مزيجًا من القوة والروحانية.

اعتماده بالإذاعة: محطة الانطلاق نحو العالم

في نهاية عام 1951، نصح الشيخ الضباع، أحد أبرز علماء الأزهر، الشيخ عبد الباسط بالتقدم للإذاعة المصرية ليصبح قارئًا رسميًا ورغم تردده بسبب ارتباطه بعائلته في الصعيد، إلا أن الشيخ الضباع أخذ تسجيلًا لتلاوته في مولد السيدة زينب وقدّمه للجنة الإذاعة.

ما إن استمعت اللجنة للتسجيل حتى أُعجب أعضاؤها بشدة بأداء الشيخ عبد الباسط، وتم اعتماده قارئًا رسميًا في الإذاعة المصرية كانت هذه الخطوة بداية انتشار صوته في كل أنحاء مصر، ومن ثم إلى العالم الإسلامي بأسره.

بفضل شعبية الشيخ عبد الباسط، ازداد الإقبال على أجهزة الراديو في المنازل المصرية والعربية أصبح برنامجه الأسبوعي على الإذاعة العامة كل يوم سبت من الثامنة إلى الثامنة والنصف مساءً موعدًا ينتظره الملايين.

رحلاته العالمية: صوت القرآن إلى كل القارات

منذ اعتماده بالإذاعة، بدأ الشيخ عبد الباسط في زيارة المساجد الشهيرة حول العالم، وأصبح سفيرًا للقرآن الكريم.

في الحرم المكي والمدني: كان الحرم المكي الشريف والمسجد النبوي في المدينة المنورة من أوائل الأماكن التي زارها الشيخ عبد الباسط لتلاوة القرآن الكريم، حيث اجتمع الآلاف للاستماع إلى صوته.

في فلسطين وسوريا: قرأ في المسجد الأقصى والمسجد الإبراهيمي بالخليل والمسجد الأموي بدمشق، مما أضاف إلى مكانته رمزية كبيرة بين المسلمين في تلك البلدان.

في آسيا وإفريقيا: من الهند وباكستان إلى جنوب إفريقيا، أبهرت تلاواته قلوب المسلمين وغير المسلمين على حد سواء.

في أوروبا وأمريكا: خلال زياراته إلى فرنسا، بريطانيا، والولايات المتحدة، جذب الشيخ عبد الباسط جمهورًا متنوعًا تجاوز حدود الدين واللغة، حيث استمع إلى تلاواته مسلمون ومسيحيون وأشخاص من خلفيات ثقافية مختلفة.

الحنجرة الذهبية وأسرار نجاحه

ما ميّز الشيخ عبد الباسط عبد الصمد كان امتلاكه حنجرة ذهبية استثنائية جمعت بين العذوبة والقوة كانت نبرات صوته تنساب بسلاسة عبر مختلف الطبقات الصوتية، مما جعله قادرًا على تقديم تلاوة غنية بالروحانية والجمال الفني.

إضافةً إلى ذلك، كان الشيخ عبد الباسط مبدعًا في استخدام المقامات الموسيقية في تلاواته، وهو ما أضفى عليها عمقًا روحانيًا وشاعريًا لم يكن يتعامل مع المقامات كهدف بحد ذاته، بل كوسيلة لخدمة النص القرآني وإبراز معانيه.

شخصيته المتواضعة والوقار الذي كان يميزه أضافا بُعدًا آخر إلى نجاحه، حيث حظي باحترام كبير سواء داخل مصر أو خارجها.

التكريمات والجوائز: تقدير عالمي لا يُضاهى

حصل الشيخ عبد الباسط عبد الصمد على العديد من التكريمات التي تؤكد مكانته كواحد من أعظم قرّاء القرآن الكريم من بين هذه الجوائز:

وسام الاستحقاق من الرئيس المصري جمال عبد الناصر.

جوائز وأوسمة من دول مثل ماليزيا، إندونيسيا، سوريا، المغرب، تركيا، وجنوب إفريقيا.

تكريم خاص من رؤساء دول عربية وإسلامية تقديرًا لدوره في نشر القرآن الكريم.

رحيله وإرثه الخالد

في 30 نوفمبر 1988، توفي الشيخ عبد الباسط عبد الصمد عن عمر يناهز 61 عامًا، تاركًا وراءه إرثًا لا يُقدّر بثمن كان خبر وفاته صدمة للعالم الإسلامي، حيث نعاه الملايين من محبيه ومتابعيه.

إرث صوت خالد

رغم مرور عقود على وفاته، لا يزال صوت الشيخ عبد الباسط حيًا في قلوب المسلمين تُذاع تسجيلاته يوميًا في المحطات الإذاعية والتلفزيونية، ولا تزال حفلاته القرآنية مصدر إلهام للأجيال الجديدة من القرّاء.

صوته لم يكن مجرد وسيلة لتلاوة القرآن، بل كان وسيلة لنشر رسالة الإسلام والسلام في أنحاء العالم، وسيظل الشيخ عبد الباسط عبد الصمد أحد أعظم رموز التلاوة القرآنية على مر العصور.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights