
“اسمك صالح وأنت صالح” تلك السيدة العجوز التي أخبرته بخفة ظل الأمهات ذات ليلة مليئة بقصف إسرائيلي جنوني في طرقات المستشفى المكتظة بالمصابين، لم تكن تعلم أن تلك اللحظة العابرة ستتحول إلى رمز إنساني خالد يوثق روح غزة الصامدة في وجه الموت.
كان صوته صدى الوجع الفلسطيني، وعدسته نافذة العالم على غزة المحاصرة. عبر ملايين الشاشات، عرفه الناس بشهرته: “صالح وانت صالح”، فصار الاسم مرادفًا للصدق، ووجهًا من وجوه الحقيقة التي لا تموت.
المصور الغزاوي صالح الجعفراوي لم يكن مجرد ناقل للحدث، بل كان شاهدًا على الحكاية وراويها، يلتقط دمعة طفل، وابتسامة عجوز، ويحولها إلى شهادة تحفظ الذاكرة من النسيان.

أكبر من عمر الاحتلال
كانت تلك اللحظة من أكثر لقطات صالح الجعفراوي تداولًا وتأثيرًا؛ حين جلس أمام الحاجة هادية، بوجهها المضيء وتجاعيدها التي حكت عمرًا أطول من الاحتلال نفسه.
أخرج صالح شهادة ميلادها ضاحكًا وقال لها: “أنتِ مواليد 44، يعني أقدم من الاحتلال الإسرائيلي!”، فابتسمت بخجل واعتزاز وهي ترد: “فلسطين أرضنا، وأنا متمسكة فيها، لو شحت علي مريا وأهلي قسوا علي حناين”.
في تلك اللحظة لم تكن الكاميرا توثق حوارًا عابرًا، بل تسجل شهادة حياة، تلخص معنى الصمود الفلسطيني المتجذر قبل الاحتلال وبعده.
تحول المشهد إلى رمز إنساني جمع بين دفء الصورة ووجع الحقيقة، ليؤكد أن غزة لا تقاس بعمر الحرب، بل بعمر من أحبّوا ترابها ورفضوا مغادرتها حتى الرمق الأخير.
بعد شهور، أعلن الجعفراوي استشهادها، بكلمات موجعة كتبها على خاصية “الاستوري”: “استشهدت يا حبيبتي يا حجّتي، الله يرحمك ويجعل مثواك الجنة، أنتِ اللي حكيتيلي اسمك صالح وأنتِ صالح”.

رحيل الصوت الحر
فشل الاحتلال الإسرائيلي في إسكات صوت الصحفي الفلسطيني صالح الجعفراوي عبر القصف أو الحظر الرقمي، فلجأ إلى وسائل غير مباشرة لإسكاته، انتهت اليوم باغتياله في حي تل الهوى بمدينة غزة.
وأكدت مصادر فلسطينية أن الجعفراوي (27 عامًا) استشهد مساء الأحد برصاص مسلحين ينتمون لجهات تعمل لصالح الاحتلال، بينما نقل جثمانه إلى المستشفى المعمداني بعد فقدان الاتصال به خلال تغطيته الميدانية في حي الصبرة.
وأوضحت عائلته أن الشهيد تلقى خلال الأشهر الماضية تهديدات متكررة بالقتل والاغتيال من قبل الاحتلال الإسرائيلي، خاصة بعد تصاعد شهرته في توثيق جرائم الحرب ونقل الرواية الفلسطينية إلى ملايين المتابعين حول العالم.
شاهد على الوجع الفلسطيني
برز اسم الجعفراوي منذ بداية الحرب على غزة عام 2023 كأحد أبرز الأصوات الإعلامية الفلسطينية التي كسرت الحصار الإعلامي وكشفت للعالم مشاهد الإبادة الجماعية.
واشتهر بقدرته على تحويل الألم إلى رسالة إنسانية مؤثرة، إذ وثق بعدسته مشاهد القصف، وصرخات الناجين، ودموع الأمهات. لتصبح كاميرته مرآةً للمعاناة وصوتًا لمن لا صوت له.
وخلال عامين من الحرب، أصبح حسابه على إنستغرام من أكثر المنصات متابعة في العالم العربي. إذ تجاوز عدد متابعيه ثلاثة ملايين شخص، بينما واصلت شركات التواصل حظر حساباته بطلبات إسرائيلية متكررة.
تحريض أفيخاي أدرعي
في سبتمبر 2025، أطلق المتحدث باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي أفيخاي أدرعي حملة تحريض علنية ضد الجعفراوي عبر حسابه على منصة إكس .
ونشر أدرعي منشورًا تضمن صورة للمصور الغزاوي وهو مغطى بالغبار والرماد بعد قصف برج الغفري المكون من 16 طابقًا في مدينة غزة. ساخرًا منه ومتهمًا إياه بتزييف المشهد وخدمة “أجندة حماس“.
وأرفق أدرعي المنشور بعبارات استهزائية، كتب فيها أن “الجعفراوي لا ينقل الحقيقة بل يصنعها”. في محاولة واضحة لتشويه سمعته وتحريض الجمهور الإسرائيلي والعالمي عليه.
وسرعان ما تلقى الجعفراوي آلاف التهديدات عبر الإنترنت، فيما اعتبر نشطاء فلسطينيون أن منشور أدرعي كان بمثابة إشارة اغتيال مبكر. تمامًا كما حدث مع مراسل الجزيرة الشهيد أنس الشريف، الذي اغتيل بعد حملة مشابهة.
رد الجعفراوي على التحريض
رد صالح الجعفراوي على منشور أدرعي بعبارة مقتبسة من القرآن الكريم نشرها على حسابه في منصة إكس، قال فيها:
﴿قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ البَيِّناتِ والَّذِي فَطَرَنا فاقْضِ ما أنْتَ قاضٍ إنَّما تَقْضِي هَذِهِ الحَياةَ الدُّنْيا﴾،
في إشارة واضحة إلى تمسكه بالحق رغم إدراكه أنه قد يستهدف كما استهدف غيره من الصحفيين.
وقال في تصريح سابق لقناة الجزيرة إنه “تلقى تهديدات مباشرة من الاحتلال لكنه يرفض الصمت، لأن الصمت خيانة لدماء الضحايا”. مضيفًا: “أنت تعيش حياة واحدة، إما أن تعيشها على طريقتهم أو على طريقتك“.
رمز الصمود الإنساني
ولد صالح الجعفراوي عام 1996 في مدينة غزة، ونشأ في بيئة ترى في الكلمة والكاميرا سلاحًا لا يقل أهمية عن البندقية.
واشتهر بمقولته المؤثرة: “صالح وانت صالح”, خلال مقابلته الشهيرة مع الحاجة هادية، التي قال لها مبتسمًا إنها “أقدم من عمر الاحت
لال الإسرائيلي”. لترد عليه بفخر: “فلسطين أرضنا وأنا متمسكة فيها”.
ذلك المقطع الإنساني تحوّل إلى أيقونة تدرس في الإعلام الفلسطيني. لأنه لخص روح الصمود والمقاومة بصدق الكلمة وعفوية الصورة.
اغتيال متعمد أم تصفية صامتة؟
تؤكد مصادر أمنية في غزة أن عملية اغتيال الجعفراوي تمت على يد مسلحين مرتبطين بجهات خارجية. في وقت تشهد فيه المدينة حالة انفلات أمني بسبب الحرب الطويلة.
ووفق تقارير إعلامية، فإن الحادثة وقعت أثناء تغطيته اشتباكات بين قوات من وزارة الداخلية ومجموعات مسلحة في حي الصبرة. حيث أُطلق عليه الرصاص وسرقت مقتنياته الشخصية.
ويرى محللون أن طريقة اغتياله تحمل بصمات عملية منظمة تهدف لإسكاته نهائيًا. بعد أن تحول إلى “خطر إعلامي” على الر
واية الإسرائيلية التي سعت لتكميم الأصوات الفلسطينية.
خسارة مهنية وإنسانية
بحسب نقابة الصحفيين الفلسطينيين، ارتفع عدد الصحفيين الذين قتلتهم إسرائيل منذ 7 أكتوبر 2023 إلى 251 صحفيًا. في ما وصف بأنه “أكبر مجزرة إعلامية في التاريخ الحديث”.
وقال ناصر أبو بكر، رئيس النقابة، إن اغتيال الجعفراوي يمثل خسارة مضاعفة، لأنه “لم يكن فقط مصورًا يوثق الجرائم. بل ضميرًا فلسطينيًا حمل الحقيقة إلى العالم”.
وأضاف أن “من استهدفه أراد إسكات الصورة التي أربكت الاحتلال. لكن صوته سيبقى حاضرًا في ذاكرة كل من شاهد مقاطعه وآمن بأن الكاميرا أقوى من الرصاصة”.





