الإسلام بين التشدد والتسيّب.. أزمة فهم أم أزمة تديّن؟

كتب:مصطفى علي
في زمنٍ يختلط فيه التدين الحقيقي بالشعارات، والإيمان بالعادة الاجتماعية، يجد الشباب المسلم نفسه عالقًا بين طرفي نقيض: تشددٌ يغلّف الدين بجدارٍ من التحريم والتكفير، وتسيّبٌ يُفرّغ الدين من مضمونه ليصبح مجرّد هوية ثقافية بلا التزام.
إنها معركة صامتة داخل العقول والقلوب، تتجدد كل يوم على منصات التواصل، وفي ساحات النقاش العام، وحتى في البيوت والجامعات البعض يرى أن الأزمة تكمن في سوء الفهم للنصوص، وآخرون يرونها أزمة ضياع هوية، بينما يؤكد علماء الشريعة أن الإسلام في جوهره دين الوسطية، لا يقبل الغلوّ ولا التهاون.
فهل نحن أمام أزمة فهمٍ للدين أم أزمة تديّنٍ يعيشها المسلم المعاصر؟ وكيف تحوّل الدين الذي وصفه الله بـ”اليُسر” إلى ميدان صراعٍ بين التشدد والانفلات؟
دين الوسطية.. جوهر الرسالة الإسلامية
الإسلام، كما جاء في القرآن والسنة، دينٌ متوازن لا يميل إلى الإفراط ولا إلى التفريط، وقد اختص الله الأمة الإسلامية بالوسطية فقال:
{وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}.
الوسطية هنا ليست مجرد شعار، بل منهج حياةٍ متكامل، يوازن بين العقل والنقل، بين الروح والجسد، بين متطلبات الدنيا والآخرة.
يقول الإمام الغزالي في إحياء علوم الدين: من أراد أن يعيش بدين الله على بصيرة، فعليه أن يجمع بين العلم والعبادة، وبين الزهد في الحرام والسعي في الحلال.
غير أن مشهد اليوم يعكس صورة مختلفة تمامًا؛ فبين من يحوّل الدين إلى سياجٍ من المحرمات، ومن يفرغه من كل التكاليف، ضاعت الوسطية التي هي لبّ الإسلام، وتاهت معها صورة التدين الصحيح في أعين الجيل الجديد.
التشدد.. حين يتحوّل الإيمان إلى سيفٍ على رقاب الناس
يرى علماء الشريعة أن التشدد في الدين ليس من الإيمان، بل هو انحراف عن روح الشريعة، إذ قال النبي ﷺ:
إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين
ورغم هذا التحذير النبوي الصريح، انتشرت في العقود الأخيرة تيارات دينية متشددة جعلت من الدين منصةً للفرقة، ومن النصوص أدواتٍ للعنف والإقصاء.
يقول الدكتور أحمد عمر هاشم، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، إن الغلوّ نابع من سوء فهم النصوص الشرعية خارج سياقها، مؤكدًا أن الشريعة الإسلامية لا تدعو إلى التشدد بل إلى الرفق، مستشهدًا بحديث النبي ﷺ:
“إن هذا الدين يُسر، ولن يُشادّ الدين أحد إلا غلبه.
ويضيف أن بعض الشباب الذين تربّوا في بيئات مغلقة، يتلقون مفاهيم الدين دون تربيةٍ روحية، فيتحوّل الإيمان عندهم إلى قوالب جامدة وأحكام قاطعة لا تعرف الرحمة، في حين أن الدين في جوهره تربيةٌ للنفس قبل أن يكون منظومة أحكام.
وعلى الجانب الآخر من المشهد، يظهر جيلٌ جديد يتعامل مع الدين كرمزٍ ثقافي أكثر من كونه التزامًا شرعيًا.
يتحدث الدكتور علي جمعة، عضو هيئة كبار العلماء، عن هذه الظاهرة قائلًا: ما نراه من تهاونٍ في أداء الفرائض وتركٍ للشعائر، ليس رفضًا للدين بقدر ما هو ضعف في الوعي الديني وفقدان للقدوة.
ويؤكد أن الإسلام لا يُفصل عن الحياة، لكنه في الوقت ذاته لا يُحاصِرها، فهو دين رحمةٍ وعدلٍ وانفتاحٍ على الكون، لا يقبل أن يُختزل في مظاهر أو يُلغى بدعوى الحرية.
ومن المظاهر الخطيرة التي أشار إليها علماء الأزهر، أن بعض الشباب باتوا يبرّرون المعاصي باسم الإيمان القلبي، معتبرين أن العلاقة مع الله شأنٌ شخصيّ لا يتدخل فيه أحد، في حين أن الدين كما قال النبي ﷺ النصيحة، وأن الأمة مسؤولة عن التواصي بالحق كما قال تعالى:
{وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}.
بين الإفراط والتفريط.. الشريعة تدعو إلى التوازن
الشريعة الإسلامية جاءت لتقيم التوازن بين حقوق الله وحقوق الإنسان، فلا تُضيّق على الناس في معاشهم، ولا تتركهم ينساقون وراء شهواتهم.
يقول الإمام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: الدين وسطٌ بين من غلا فيه حتى شدّد، وبين من جفا عنه حتى ضيّع.
وقد وضع الإسلام قواعد واضحة تضمن هذا التوازن، فالتشدد يؤدي إلى التنفير من الدين، والتسيّب يؤدي إلى ضياع المقاصد، والاثنان مرفوضان شرعًا.
وفي هذا الإطار يقول الله تعالى:
{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}.
ويعلّق الدكتور محمد مختار جمعة، وزير الأوقاف، بأن الخطاب الديني المتوازن هو الحل الحقيقي لإعادة الأمة إلى الاعتدال، مؤكدًا أن الوسطية ليست ضعفًا ولا تهاونًا، بل هي قوة الفهم والقدرة على التمييز بين النص والواقع.
يذهب عدد من المفكرين الإسلاميين إلى أن جوهر المشكلة ليس في الدين نفسه بل في طريقة فهمه.
فالدين ثابت في نصوصه، لكن الإنسان هو الذي يحمّله أحيانًا ما لا يحتمل، فيفسّره وفق أهوائه أو ثقافته المحدودة.
يقول المفكر الإسلامي محمد الغزالي: إن أكثر ما شوّه الإسلام هو جهل المتدينين به قبل خصومه.
ويُرجع بعض علماء الاجتماع الديني هذه الأزمة إلى ضعف التربية الدينية المتوازنة في البيت والمدرسة، وإلى غياب القدوة العلمية والروحية في الحياة العامة، ما جعل الشباب فريسةً للتيارات المتطرفة من جهة، والموضات الفكرية المنفلتة من جهة أخرى.
تظهر أزمة الهوية الدينية اليوم بشكل واضح بين شباب الجيل الرقمي، الذين يعيشون في عالمٍ مفتوح تذوب فيه الحدود الثقافية والفكرية.
يقول الدكتور إبراهيم الهدهد، الرئيس الأسبق لجامعة الأزهر، إن “الجيل الجديد لا يرفض الدين، بل يبحث عن معنى صادقٍ له، بعيدًا عن الخطاب القاسي أو المنفلت”.
ويؤكد أن المعركة الحقيقية ليست بين الإسلام والحداثة، بل بين الفهم العميق للدين والفهم السطحي الذي يختزل الإيمان في مظاهر أو شعارات.
كما أشار إلى ضرورة إعادة بناء الخطاب الدعوي بلغةٍ قريبة من الشباب، تقوم على الرحمة والحوار والعقل، بدلًا من أسلوب التخويف أو الإقصاء، لأن الجيل الجديد يحتاج إلى من يقنعه لا من يهاجمه.
الإسلام رسالة توازن.. لا تشدد فيها ولا تسيّب
من جوهر العقيدة الإسلامية أن الله سبحانه وتعالى لم يكلّف الإنسان فوق طاقته، ولم يتركه بلا ضوابط، قال تعالى:
{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}.
ولهذا كان الإسلام دائمًا دعوةً إلى الاعتدال، لا إفراط فيه ولا تفريط، لا رهبانية ولا انحلال، وإنما توازن بين عبادة الله وعمارة الأرض.
وقد جسّد النبي ﷺ هذا المنهج حين قال لمن أرادوا الغلو في العبادة:
أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني.
بهذا الحديث جمع الرسول ﷺ المنهج كله في كلمات: لا تشدد ولا تسيّب، بل اعتدال يليق بكرامة الإنسان.

