الفشني.. صوت الإيمان الذي خلد التواشيح وأسر القلوب

في رحلة روحانية مع أصوات تفيض بالإيمان ونغمات تتسلل إلى أعماق القلوب قبل الآذان، نغوص في صفحات مشرقة من حياة أعلام تلاوة القرآن الكريم.
هؤلاء القراء الذين أضاءوا بأصواتهم سماء التلاوة، ونقلوا آيات الله إلى أرجاء العالم بصدق وإخلاص، ليصبحوا منارات خالدة في تاريخ التلاوة القرآنية.
من خلال سلسلة تقارير مميزة، يفتح موقع وجريدة «اليوم» نافذة على قصص هؤلاء العظماء، كاشفًا تفاصيل مسيرتهم الفريدة، وبصماتهم المؤثرة في عالم التلاوة، ودورهم في نشر رسالة القرآن الكريم إلى قلوب الملايين.
عندما يتحدث الصوت بلغة الروح
طه الفشني، ذلك الاسم الذي يحمله التاريخ كواحد من أعظم المنشدين وقارئي القرآن في العصر الحديث.
حُفر صوته في وجدان الملايين كرمز للخشوع والإحساس الروحي العميق، حيث شكّل حالة خاصة في الإنشاد والتواشيح الدينية امتدت آثارها إلى ما بعد حياته بسنوات طويلة.
النشأة في بيئة متواضعة: بين الدين والطبيعة
ولد طه حسن الفشني عام 1900 في مدينة الفشن، بمحافظة بني سويف نشأ في بيئة ريفية بسيطة تتسم بالهدوء والطابع الديني كانت عائلته متدينة بطبيعتها، واعتاد أفرادها حضور حلقات الذكر وتلاوة القرآن الكريم.
بدأت علاقة الفشني بالقرآن الكريم في سنواته الأولى، حيث التحق بالكُتّاب لتعلم القراءة وحفظ القرآن.
لفت صوته المميز أنظار شيخ الكُتّاب، الذي أشاد بموهبته المبكرة في التلاوة.
في تلك الفترة، كان الفشني يُطلب منه أن يتلو القرآن في المناسبات الدينية، وهو ما منحه الثقة الأولى للانطلاق في هذا المجال.
تعليم ديني عميق وصقل للموهبة
أثناء سنوات شبابه، توجه الفشني إلى القاهرة للالتحاق بالأزهر الشريف لم يكن التعليم الديني بالنسبة له مجرد تحصيل أكاديمي، بل كان فرصة لصقل موهبته الصوتية.
التقى هناك بشيوخ متمرسين في علوم التلاوة والتجويد، وأصبح قارئًا متمكنًا للقرآن الكريم.
في الأزهر، لم يكن صوت الفشني مجرد وسيلة لإبراز التلاوة؛ بل أصبح نافذة للتعبير الروحي كان يتمتع بقدرة استثنائية على الوصول إلى قلوب الناس عبر صوته الذي تميز بنقاء وحلاوة غير مألوفة.
نقطة التحول: لقاء الشيخ علي محمود
كان اللقاء مع الشيخ علي محمود، أحد أبرز المنشدين في تاريخ الإنشاد الديني، نقطة تحول مفصلية في حياة طه الفشني خلال إحدى المناسبات الدينية، استمع الشيخ علي محمود إلى تلاوة الفشني وأدائه لبعض التواشيح، فأدرك فورًا الموهبة الفريدة التي يمتلكها هذا الشاب الصعيدي.
أخذ الشيخ علي محمود بيد الفشني وفتح أمامه أبواب الظهور في حفلات الذكر الكبرى التي كان يحضرها رجال الدين وأعيان المجتمع لم يكن هذا الدعم مجرد تأييد معنوي، بل كان بمثابة شهادة بأن الفشني يمتلك صوتًا استثنائيًا يستحق الوصول إلى آذان الجميع.
الإذاعة المصرية: مرحلة التألق والانتشار
مع تأسيس الإذاعة المصرية عام 1934، بدأت مرحلة جديدة في حياة طه الفشني.
كان من أوائل الأصوات التي اعتمدتها الإذاعة لتقديم التواشيح الدينية وتلاوة القرآن الكريم هذه المرحلة مثلت نقلة نوعية، حيث أصبح صوته يصل إلى كل بيت في مصر وخارجها.
في عام 1942، تولى منصب رئيس فرقة الإنشاد الديني بالإذاعة، وهو منصب أتاح له تقديم أفضل أعماله خلال هذه الفترة، سجل مجموعة كبيرة من التواشيح والابتهالات، التي أصبحت علامات بارزة في الفن الديني، ومنها:
“مولاي إني ببابك”
“يا أيها المختار”
“جل المنادي”
“تباركت يا ذا الجلال”
لم يكن دوره في الإذاعة مقتصرًا على الأداء فقط، بل كان يشارك في اختيار المنشدين الجدد وتدريبهم، مما ساهم في بناء جيل جديد من المبدعين في هذا المجال.
براعة فنية وابتكار في التواشيح
تميزت أعمال طه الفشني بتنوع المقامات الموسيقية التي استخدمها في تواشيحه كان يمتلك قدرة نادرة على الانتقال بين المقامات مثل مقام “البياتي” و”الحجاز” و”الصبا” بسلاسة تنم عن إتقان كبير لفن المقامات.
كان أسلوبه في الأداء يعتمد على المزج بين العمق الروحي والجمال الفني، حيث استخدم صوته كأداة لإيصال المعاني الدينية بشكل يخاطب القلب قبل الأذن هذا التميز جعله يتفوق على كثير من أقرانه ويضع بصمته الخاصة في عالم التواشيح.
محطات تاريخية في حياة الفشني
الحفلات الكبرى: كان الفشني يشارك بانتظام في الحفلات الكبرى التي تُقام في المناسبات الدينية، مثل المولد النبوي وليلة الإسراء والمعراج.
هذه الحفلات كانت تجمع الآلاف من عشاق الإنشاد الديني، وكانت بمثابة مهرجانات للفن الروحي.
الأداء في الحرمين الشريفين: نال الفشني شرف الأداء في الحرمين الشريفين خلال زياراته للمملكة العربية السعودية، حيث أُعجب المسلمون في كافة أنحاء العالم بصوته.
التكريم الوطني: حصل على العديد من التكريمات من الدولة المصرية، تقديرًا لمساهماته الكبيرة في إثراء التراث الديني والفني.
الفشني كمعلم وأب روحي للأجيال الجديدة
كان طه الفشني شخصية ملهمة للكثير من المنشدين وقارئي القرآن خلال فترة عمله في الإذاعة، كان يحرص على توجيه المواهب الشابة وتدريبهم على فن التلاوة والإنشاد.
أبرز ما يميزه كمعلم هو قدرته على نقل روحه الفنية إلى تلاميذه، حيث لم يكن يركز فقط على الجوانب التقنية في الأداء، بل كان يزرع فيهم حب الفن الديني والإخلاص في تقديمه.
الوفاة وإرث خالد لا يُمحى
في عام 1971، توفي طه الفشني بعد حياة مليئة بالعطاء ورغم رحيله، لا يزال صوته حاضرًا في وجدان الملايين.
تسجيلاته تُذاع حتى اليوم في الإذاعات والمساجد، خاصة خلال شهر رمضان المبارك وفي المناسبات الدينية.
طه الفشني مدرسة خالدة
طه الفشني لم يكن مجرد صوت عابر؛ بل كان حالة فنية وروحية متفردة استطاع أن يجعل من صوته جسرًا يصل بين الروح الإنسانية ومعاني الإيمان، ليبقى اسمه خالدًا في ذاكرة الزمن كأحد أعظم من خدموا الفن الديني ورفعوا رايته عاليًا.