ليلة القدر.. سر إخفائها وفضلها العظيم في العشر الأواخر

ليلة القدر هي أعظم ليلة في السنة، خصّها الله سبحانه وتعالى بفضل عظيم، إذ قال في كتابه الكريم:
“لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ” (القدر: 3)، أي أن العبادة فيها تعادل عبادة 83 عامًا وأربعة أشهر، وهو فضل لا يضاهيه أي يوم أو ليلة أخرى في العام.
وقد تميزت هذه الليلة بنزول القرآن الكريم، حيث قال الله تعالى: “إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ”، وهو ما جعلها ليلة استثنائية مليئة بالخيرات والرحمات، إذ يتنزل فيها الملائكة وجبريل عليه السلام بإذن الله لقضاء الأمور والمقادير.
ورغم هذا الفضل العظيم، يبقى السؤال المتكرر كل عام: هل ليلة القدر ثابتة في كل عام أم متغيرة؟
حكمة إخفاء ليلة القدر عن المسلمين
لم يحدد الله سبحانه وتعالى موعدًا دقيقًا لليلة القدر، بل جعلها خفية في العشر الأواخر من رمضان، وخاصة في الليالي الوترية، وهي ليالي 21، 23، 25، 27، 29.
وقد بيّنت دار الإفتاء المصرية أن سبب إخفاء ليلة القدر هو تحفيز المسلمين على الاجتهاد في العبادة خلال العشر الأواخر من رمضان، بحيث لا يقتصر الاجتهاد على ليلة واحدة فقط، بل يمتد طوال هذه الليالي المباركة.
وقد جاء في الحديث عن السيدة عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ كان إذا دخلت العشر الأواخر من رمضان شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله (رواه البخاري ومسلم)، مما يدل على أهمية الاجتهاد في الطاعة في هذه الأيام.
آراء العلماء في موعد ليلة القدر
1. هل ليلة القدر ثابتة أم متغيرة؟
اختلف العلماء في تحديد موعد ليلة القدر، وقد جاءت الآراء على النحو التالي:
الرأي الأول: ليلة القدر ثابتة كل عام
بعض العلماء، ومنهم الصحابي الجليل جابر بن عبد الله، أشاروا إلى أن ليلة القدر تكون في ليلة السابع والعشرين من رمضان، مستندين إلى عدة أدلة منها:
أن كلمة “هي” في قوله تعالى “سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ” (القدر: 5) تأتي في ترتيب الحرف السابع والعشرين من السورة.
شهادة بعض الصحابة بأنهم رأوا أمارات ليلة القدر في ليلة 27.
الرأي الثاني: ليلة القدر متغيرة كل عام
رأى الإمام أبو حامد الغزالي وبعض العلماء الآخرين أن ليلة القدر ليست ثابتة في ليلة محددة كل عام، بل تتنقل بين الليالي الوترية، استنادًا إلى قول النبي ﷺ: “التمسوها في العشر الأواخر من رمضان، في الوتر” (رواه البخاري ومسلم).
الرأي الثالث: ليلة القدر رُفعت بسبب جدال الصحابة
ورد في الحديث عن الصحابي عبادة بن الصامت أن النبي ﷺ قال: “خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحى رجلان، فرفعت” (رواه البخاري)، مما يشير إلى أن موعدها كان سيُكشف، لولا النزاع الذي وقع بين الصحابة، وهو ما يعزز فكرة أنها متغيرة.
علامات ليلة القدر كما وردت في السنة النبوية
على الرغم من عدم تحديد موعدها بشكل دقيق، إلا أن العلماء استدلوا على بعض العلامات التي تظهر خلال ليلة القدر أو في صبيحتها، ومنها:
1. السكينة والطمأنينة: يشعر المسلم براحة نفسية غير عادية في هذه الليلة.
2. صفاء السماء واعتدال الجو: تكون السماء صافية بلا غيوم، ويكون الجو معتدلًا، لا شديد الحرارة ولا شديد البرودة.
3. هدوء الرياح وعدم حدوث العواصف: تكون الليلة هادئة، دون أصوات رياح قوية أو زوابع.
4. إشراق الشمس دون أشعة حادة في الصباح: فقد ورد عن النبي ﷺ أنه قال: “إنها تطلع يومئذٍ لا شعاع لها” (رواه مسلم).
كيف نحيي ليلة القدر؟
حث النبي ﷺ المسلمين على استغلال ليلة القدر في الطاعة والعبادة، ومن أهم الأعمال التي يمكن القيام بها في هذه الليلة:
1. قيام الليل بالصلاة والدعاء
لقوله ﷺ: “من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه” (رواه البخاري ومسلم).
2. قراءة القرآن والتدبر في آياته
فقد كان النبي ﷺ يكثر من قراءة القرآن في رمضان، وخاصة في العشر الأواخر.
3. الإكثار من الدعاء، خاصة دعاء النبي لعائشة رضي الله عنها
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قُلْتُ: “يا رسول الله، أرأيت إن وافقت ليلة القدر، بم أدعو؟” قال: “قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني” (رواه الترمذي).
4. الذكر والاستغفار
مثل التسبيح والتهليل والاستغفار، فقد كان النبي ﷺ يدعو إلى الإكثار من الذكر في الليالي العشر.
5. إخراج الصدقات ومساعدة المحتاجين
فالصدقة في هذه الليلة مضاعفة الأجر، ومن أفضل الأعمال التي يتقرب بها العبد إلى ربه.
لماذا إحياء ليلة القدر مهم؟
ليلة القدر ليست مجرد ليلة عظيمة، بل هي فرصة ذهبية لمغفرة الذنوب، حيث وعد الله من يقيمها ويحييها بالعبادة أن يغفر له ذنوبه الماضية، كما أنها ليلة تتغير فيها أقدار العباد، حيث قال الله تعالى: “فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ” (الدخان: 4).
وقد قال الإمام الحسن البصري: “كل إنسان يُقدَّر له في ليلة القدر ما يكون من أمور حياته حتى السنة القادمة”، مما يجعل هذه الليلة فرصة عظيمة للدعاء والتضرع إلى الله ليكتب للعبد الخير في دنياه وآخرته.
ليلة القدر ليست ليلة عادية، بل هي الليلة التي تتغير فيها أقدار البشر وتتنزل فيها الملائكة بالخير والبركة. ورغم اختلاف العلماء في تحديد موعدها، إلا أن الأهم هو الاجتهاد في الطاعة والعبادة في العشر الأواخر من رمضان، دون الانشغال بمحاولة تعيين ليلة بعينها.
ومن أراد الفوز بثوابها العظيم، فعليه أن يستعد لها بالإخلاص والعمل الصالح، لعلّه يكون من الفائزين بمغفرة الله ورضوانه، ويحظى بفرصة لا تتكرر إلا مرة واحدة كل عام.