عباس شومان: توحيد الكلمة فرض ومصر ستبقى قاهرة وحامية

تقرير: مصطفى على
أطلق الدكتور عباس شومان، الأمين العام لهيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، خلال خطبة الجمعة من الجامع الأزهر، نداءً واضحًا وصريحًا إلى قادة وشعوب العالم العربي والإسلامي، حثهم فيه على ضرورة توحيد الصفوف ولمّ الشمل، مؤكدًا أن “توحيد الكلمة واجب شرعي، والعجز عن تحقيقه تقصير لا يغتفر”.
وفي خطبته التي تزامنت مع ذكرى الهجرة النبوية، استعرض الدكتور شومان النموذج النبوي الفريد في بناء وحدة الأمة من خلال تأسيس مجتمع المدينة المنورة، داعيًا إلى استلهام تلك القيم العظيمة في ظل واقع عربي وإسلامي مثقل بالتحديات والصراعات والانقسامات.
نداء إلى قادة العرب والمسلمين: لا تضيعوا اللحظة
في واحدة من أقوى الرسائل المباشرة، وجه الدكتور شومان خطابه إلى الزعماء العرب والمسلمين، قائلًا: “ضعوا أيديكم في أيدي بعض قبل فوات الأوان، فوحدة الأمة لم تعد ترفًا بل ضرورة مصيرية، تقدموا بمصالح شعوبكم فهم أَولى بخيرات بلادهم من أي أحد”.
وأكد أن أوضاع الأمة تتطلب وقفة شجاعة وجماعية، مشيرًا إلى أن استمرار النزاعات لا يخدم سوى أعداء الأمة المتربصين بخيراتها ووحدتها، مضيفًا: “آن الأوان أن تنهض الأمة بوعي وإرادة، وأن يُقدَّم المصلحة العامة على المصالح الذاتية والضيقة”.
دعوة لتربية الأجيال على حب الدين والوطن والعمل
وانتقل الدكتور عباس شومان في خطبته إلى الحديث عن دور التربية في تحقيق نهضة الأمة، مؤكدًا أن بناء الأوطان لا يكون إلا ببناء الإنسان، قائلاً: “ربّوا أبناءكم على حب دينهم، وعلّموهم تعاليمه الصحيحة، وأعدّوهم ليكونوا أدوات للبناء والإنتاج والدفاع عن أوطانهم”.
وشدد على أن الحفاظ على الوطن واجب ديني ووطني، وأضاف: “مصر باقية، وإذا نال الأعداء منها فلا بقاء لعرب ولا مسلمين، ولكنها ستبقى بإذن الله، ستبقى قاهرة حامية، لأنها محروسة بعناية الله أولًا، ثم بوعي شعبها وثباته”.
المدينة لم تكن أرضًا خصبة للدعوة لكنها كانت الأقل عنادًا
وفي حديثه عن الهجرة النبوية ودلالاتها، أوضح شومان أن المدينة المنورة لم تكن في ظاهرها الأرض المثالية الجاهزة لانطلاق الإسلام، لكنها كانت الأقل عنادًا مقارنةً بمكة المكرمة، وهو ما مكّن الدعوة من الانطلاق منها بعد عناء طويل.
وأضاف: “المدينة كانت تعاني من نزاعات وصراعات عميقة بين قبيلتي الأوس والخزرج، زادت عن 120 سنة من الثأر والاقتتال، فضلًا عن وجود قبائل يهودية أعلنت عداءها للإسلام، ما شكّل تحديات كبيرة أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم لبناء مجتمع مستقر”.
بين المهاجرين والأنصار واليهود.. صناعة نموذج حضاري فريد
وشرح الدكتور شومان كيف استطاع النبي صلى الله عليه وسلم تجاوز هذه التحديات، مشيرًا إلى أن أولى خطواته كانت “التأليف بين القلوب”، فقال: “الله تعالى وفق رسوله الكريم لأن يؤلف بين قلوب الأوس والخزرج، فأصبحوا بنعمة الله إخوانًا، وبهذا تحوّل التناحر إلى وحدة”.
وأكد أن النبي صلى الله عليه وسلم أسّس منظومة اجتماعية متجانسة في المدينة من خلال “المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار”، وهي خطوة عبقرية في تكوين نسيج اجتماعي جديد يقوم على المحبة والمساواة والتكافل.
وأضاف: “ثم عقد النبي صلى الله عليه وسلم معاهدات سلمية مع القبائل اليهودية المقيمة في المدينة، والتزم بها رغم ما أظهره بعضهم من نوايا عدوانية، ولم ينقض معاهدة قط، ما أرسى أساسًا مهمًا لفكرة التعايش السلمي في المجتمع الإسلامي”.
مكة.. العدو البعيد الذي لم يغِب عن ذهن النبوة
ورغم استقرار مجتمع المدينة، أشار شومان إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يغفل عن “عدوه البعيد”، في إشارة إلى قريش وكفار مكة الذين لم يكفوا عن محاولة النيل من الإسلام وأهله، مؤكدًا أن بناء الداخل لا يعني نسيان التهديدات الخارجية.
وقال: “الرسول الكريم ركز أولًا على تثبيت أركان المجتمع من الداخل، وبناء الوحدة، والتكافل، والمؤسسات الأولى للدولة الإسلامية، ثم واجه عدوه الخارجي وهو على أرضية صلبة وكتلة متماسكة”.
الهجرة دروس متجددة.. فهل من معتبر؟
واختتم الدكتور شومان خطبته بدعوة الجميع إلى استحضار دروس الهجرة النبوية في واقعنا المعاصر، قائلًا: “الهجرة لم تكن مجرد انتقال جغرافي، بل هي انتقال حضاري وقيمي من الانقسام إلى الوحدة، ومن التشرذم إلى الدولة، ومن الفوضى إلى النظام، ومن الخوف إلى الأمان”.
ودعا إلى تحويل ذكرى الهجرة إلى محطة انطلاقة جديدة نحو إصلاح ما فسد، وبناء ما تهدّم، واستعادة روح الأمة الواحدة التي لا تُقهر إذا توحّدت.
في ظل ما تمر به الأمة من أزمات داخلية وخارجية، يعيد خطاب الدكتور عباس شومان التذكير بأساسيات النجاة: الوحدة، التربية، العمل، والوفاء بالعهود وإذا كانت الهجرة قد جمعت بين قلوب المهاجرين والأنصار تحت راية واحدة، فإن أمتنا اليوم أحوج ما تكون إلى استلهام هذا النموذج النبوي، قبل أن يسبق الفُرقة كل ندم.