السنوار… أيقونة أكتوبر 2024 في مشهد لم تصوره هوليود

أكتوبر 2024، لم يكن شهرًا عاديًا فمثلما حمل الذكرى الأولى “لطوفان الأقصى”، جاء أيضًا مصحوبا بالأحداث والتحديات، فكان مطلعة الهجوم البري للاحتلال على لبنان، والرد اللبناني الكثيف الذي طال منزل “بنيامين نتنياهو” نفسه في قيسارية بالقدس، ثم وصول الضربات اليمنية عمق (تل أبيب) في ذكرى الطوفان، واغتيال “هاشم صفي الدين” القيادي بحزب الله.
1. المشهد الأيقوني:
في يوم ١٧ أكتوبر كان المشهد الذي رجت أصداءه الكرة الأرضية وأضحى أيقونة أكتوبر، وربما أيقونة العام حيث لم ينته وجوده حتى الآن: مشهد اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس “يحيى السنوار” بمحض الصدفة، بينما كان يرتدي البزة العسكرية، ويقود اشتباكًا ضد قوة مقاتلة للاحتلال برفقة اثنين من مقاتلي القسام بينهم القيادي “محمود حمدان”- قائد كتيبة تل السلطان في رفح.
وكانت تفاصيل المشهد كما بثه الاحتلال وصورته طائراته المسيرة كالتالي: رصدت قوة للاحتلال تحرك ثلاثة مقاتلين للمقاومة بينهم اثنين ملثمين، فأطلقت النار عليهم بكثافة، اضطر معها المقاومون بالتفرق، فدخل اثنان منهم إلى مبنى بينما دخل الثالث- الذي لم يكن سوى القائد “السنوار”- إلى مبنًا آخر، فأطلقت القوة القذائف على المبنى من إحدى دبابتين كانت ضمن قوة الاحتلال، تبعها إطلاق الجنود الرصاص بكثافة على المبنى، ليتبادل معهم “السنوار” إطلاق النار ويرميهم بقنبلتين يدويتين، قبل أن ينتقل إلى مبنى آخر ويصعد إلى طابقه الثاني ومازال مشتبكاً معهم، في هذه الأثناء أطلق العدو قذيفة أخرى على مبني، ثم ألقى قنبلتين على المبنى.
جاء ذلك قبل أن ترسل قوة الاحتلال طائرة مسيرة لمسح المبنى وتفقده، فرصدت مقاتل ملثم مصاب في ساعده الأيمن إصابة بالغة بترت جزءًا من منه، ويجلس على أحد المقاعد في غرفة، وفور رؤيته للمسيرة تقترب منه ألقى عصًا خشبيةً عليها، لترد القوة بقذيفة أخرى استهدفت موقع جلوسه، دون أن تجرؤ على دخول المبنى، على الرغم من أن ذلك كان في ضوء النهار قبل الغروب بوقت كبير.
وفي صباح اليوم التالي بدأت القوة التابعة للعدو في دخول المبنى، فرأى جنودها جثة اشتبهوا في أنها “جثة السنوار”، فنقلوها للأراضي المحتلة، ليعلنوا بعد ذلك أن نتيجة تحليل الحمض النووي تؤكد أنه قائد الطوفان.
وبعد ذلك أعلن طبيب التشريح لدى الاحتلال، أسباب وفاته والإصابات في جسده، فقال إنها كانت: شظية بالرأس ورصاصة بالصدر، وإصابة بساعده الأيمن بفعل قذيفة، وسقوط جسم ثقيل على ساقه اليسرى، وانتشار العديد من الشظايا في جسده.
2. هوليود العاجزة أمام الملحمة:
من ذلك المشهد ثارت أحاديث مواقع التواصل الاجتماعي، حول تلك الملحمة التي “لم يستطع تصويرها حتى أعظم مخرجي هوليود”- حسب تعبير الجمهور، وتمثل الإعجاز فيها من واقع وصف جماهير (فيس بوك وإكس) في: رجل ستيني يواجه بمفرده كتيبة كاملة لجيش، مسلحة بأثقل الأسلحة، ويتحمل الإصابات ويظل على صموده، حتى حينما يبتر ساعده ويبدأ جسده في الوهن، فيمسك بأخر ما لديه- عصا خشبية- ويلقيها على مسيرة عدوه، وكأنه يؤكد بقاءه مقاتل للرمق الأخير، ولا يسلم روحه إلى بارئها إلا نتيجة لقذيفة الدبابة التي استهدفت موقعه بدقة.
وكان الشق الثاني في الملحمة هو اللحظة الأخيرة في المشهد المصور، وقوة احتمال ذلك البطل، حيث عجت وسائل التواصل الاجتماعي بالتساؤل حول كيفية احتماله كل ما حدث دون أن يستسلم، وحسب تعبير رواد تلك الوسائل: هو بطل يرفض الاستسلام على الرغم من بتر ساعده، ونفاد خزينة سلاحه والقنابل بحوزته، ثم ينظر للطائرة بنظرة تحدي مصوبة لمن يحركها، ويرميها بعصا خشبية كأنه يرمي بها أعداءه المحركين لها.
ليأتي الركن الثالث من الأسطورة- حسب منشورات وسائل التواصل: خوف أعداءه منه، على الرغم من فارق القوة الرهيب بينهم وبينه وفارق العدد، وكذلك رصدهم لإصابته البالغة، وضربه بالأسلحة الثقيلة، لكنهم لم يتمكنوا من دخول المنزل الذي يحوي جثمانه إلا في صباح اليوم التالي حتى يكون قد استشهد فعليًا.
وفي تحليل آخر، كان الفشل الاستخباراتي للعدو ركنًا رابعًا في المشهد، حيث كان العدو في حيرة من أمره، بعدما فرض سيطرته الكاملة على قطاع غزة دون أن يجد أثرًا “للسنوار” المطلوب رقم واحد لديهم، وحينما عثرت عليه فرقة رصد بالصدفة كان يقف قائدًا ميدانيا للعمليات مشتبكًا بالسلاح، ولم يهرب لإيران مع الرهائن كما زعم “نتنياهو”، كما لم يكن مختبئًا في نفق عميق محصن كما زعم قادة جيشه.
وأخيرًا كان الإبهار العالمي الركن الخامس للصورة، حينما رأى الجميع صورة المقاتل الذي ظل يحارب فعرفوه أنه “السنوار”، بعدما بث جنود كتيبة العدو- على حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي- صور البطل الذي تمكنوا من القضاء عليه مفاخرين بقتلهم قائد حماس، فكان التقدير العالمي الذي تلقاه البطل، وضجت به وسائل الإعلام ووسائل التواصل، بدلًا عن الشماته أو الانتقاص، الأمر الذي حال دون تزييف صورته وتشويه ملحمة استشهاده، ليفقد الاحتلال صورة النصر التي كان ينوي بثها باغتياله.
3. من صلاح الدين إلى جيفارا:
“البطل مقابل البهلوان”… تعليق كتبه “جاكسون هينكل”- الناشط الأمريكي الشهير الداعم لفلسطين- على حسابه على موقع التواصل الاجتماعي (إكس)، مصحوبًا بصورة تحمل مشهدين: الأول لأخر لحظة في حياة “السنوار” بينما يجلس مصابا على كرسي يمسك بعصاه الخشبية، والثاني للرئيس الأوكراني “فولوديمير زيلينسكي” يقف وسط الكاميرات، في إشارة لصدارة “السنوار” باعتباره قائد حقيقي يقود بنفسه عمليات الميدان في الحرب، مقارنة بالرئيس الأوكراني الذي يقود الحرب من خلال الكاميرات.
هكذا رُسِمَت صورة رئيس حركة حماس بعد المشهد الأسطوري لنهايته، حيث رأي فيه العالم تجسيدًا للبطل الخارق الحقيقي، حتى وصفه بعض رواد مواقع التواصل الاجتماعي بأنه “صلاح الدين الأيوبي” لهذا العصر، فتداولوا منشور جاء محتواه: “نغني منذ 90 عامًا: أين صلاح الدين؟ ولما جاءنا تركناه وحده يواجه الطائرة بالعصا!”.
يأتي هذا بينما شبهه آخرون “بتشي جيفارا” في قرائتهم لمشهد موته، فقال منشور: “لا أخفي أن الصورة التي جالت في ذهني مباشرة هي صورة جثمان تشي جيفارا، وعدد من القتلة يحيطون به بسلاحهم والرعب ظاهر على وجوههم”.
وعن شرف النهاية، وكيف تجسدت فيها أرقى معاني العزة، فكانت في حد ذاتها صفعة للاحتلال، تحدث البعض عن رؤيتهم صور الصحابة فيه، فتناقل رواد (فيس بوك) منشورًا يقول: “الله أكبر… الله أكبر، شهيد يذكرنا ببطولات الإسلام الأولى، يذكرنا بأبي جعفر الطيار، رحم الله يحيى السنوار، رحم الله شهدائنا…”.
“رميته بعصا السنوار”… هكذا كان مضمون المنشور، الذي صك من خلاله رواد مواقع التواصل الاجتماعي مثلًا عربيًا في اللغة مستوحًا من المشهد الملحمي، فقال منشور على (فيس بوك): ” ستقول العرب في أمثالها: رميته بعصا السنوار… أي استفرغت وسعي حتى الرمق الأخير”، ما نال استحسان معظم النشطاء على الموقع، وأقروا اعتماده وبدأوا في استخدامه في منشوراتهم.
جاء من بين المتفاعلين المؤثرين مع الحدث الممثل المصري “خالد النبوي”، الذي رأى في مشهد النهاية تجسيدًا لكلمات الشاعر الفلسطيني “محمود درويش”، فقال في تغريدة له على موقع التواصل الاجتماعي (إكس) تعليقًا على مشهد النهاية الملحمية: “سقطت ذراعك، فالتقطها واضرب عدوك، هذا ما قاله محمود درويش، وهذا ما فعله يحيى السنوار، ألف رحمة ونور على كل شهيد وهب روحه فدا أرضه”، فكانت إذنا بإلصاق القصيدة باسم القائد الملهم، إذ رآها الجمهور وجدت لوصفه.
4. السنوار يحيي الحسيني:
بإعلان استشهاد “السنوار” مقاتلًا في الميدان، أكدت وسائل الإعلام العربية أنه أول قائد بالمقاومة يتم اغتياله أثناء القتال بعد “عبد القادر الحسيني”- القائد الفلسطيني الكبير الذي استشهد عشية النكبة في معركة القسطل عام 1948.
بيد أن تلك لم تكن المقاربة الأولى بين القائدين، فكان أيضًا مشهد النهاية شبه مطابق لمشهد استشهاد “الحسيني”، فكما حاصرت “السنوار” قوة كاملة بمفرده، ليواجه الدبابة والمدفعية مع المشاة، وظل يحارب حتى نفاد ذخيرته، وقف أيضًا “الحسيني” في معركة القسطل يواجه بمفرده، بعدما تعطلت العبوة الناسفة التي كان يحملها، وحاصرته قوات الاحتلال فاستنفر قوته للرمق الأخير.
وبينما ظل “السنوار” يتبادل مع العدو إطلاق النار، وأسقط منهم عددا من الجرحى، ولم توقف نبضه إلا القذائف الثقيلة للدبابة، بقى “الحسيني” يقاتل حتى سقطت قذيفة هاون على سقف الغرفة التي يختبئ بها، ليتم العثور عليه وهو سليم الجسد، إلا من شظية من القذيفة أصابت أسفل بطنه فكانت سببًا في استشهاده، وعثروا أيضًا إلى جواره على 9 قتلى صهاينة قتلى كان قد أجهز عليهم بمفرده- حسب عائلة “الحسيني”.
وكما لم يعثروا على جسد “الحسيني” إلا في صباح اليوم التالي للقتال الذي استشهد فيه، لم تتجرأ قوات العدو على دخول المنزل المحاصر فيه “السنوار” إلا في صباح اليوم التالي أيضًا لتكتشف شخصيته.
وبالنظر لأوجه الشبه بينهما، ثمة وجه آخر يمتاز بالاستمرارية، إذ أنه كما بقي مشهد استشهاد “الحسيني” أيقونة يستلهم منها الناس معاني البطولة، استمر مشهد استشهاد (السنوار) أيقونة متداولة للبطولة والإقدام ما بقي من أكتوبر حتى الآن، ولم تخمد شعلتها أو ينطفئ وهجها، بما يوحي ببقاءها لتزداد رسوخًا وبقاءً في الأذهان وعلى الألسنة كلما مر عليها الوقت.