مقالات

الدكتور محمود منصور يكتب: حرب أشباه الموصلات

تهيمن التكنولوجيا على كل جوانب الحياة، وأصبحت أشباه الموصلات ركيزة أساسية لنمو الاقتصاد العالمي واستدامته، حيث تدور رحى “حروب أشباه الموصلات” بين القوى العظمى

حيث تتنافس الولايات المتحدة والصين على السيطرة في هذا المجال الحيوي الذي يعد العمود الفقري لجميع الأجهزة الذكية والتطبيقات الرقمية من الهواتف المحمولة إلى السيارات الكهربائية، تتوقف الابتكارات التكنولوجية على توافر أشباه الموصلات، مما يجعلها سلاحًا استراتيجيًا في الصراعات الجيوسياسية الحديثة.

تتضمن هذه المعركة محاور متعددة، من الاستثمار في البحث والتطوير إلى فرض القيود التجارية والتكنولوجية، إذ تسعى كل من واشنطن وبكين لضمان هيمنتها على المستقبل التكنولوجي. وفي ظل تزايد التوترات الدولية، أصبحت الشركات الكبرى في قلب هذا الصراع، تتجاذبها المصالح الوطنية والتنافسية.

الدكتور محمود منصور

في هذا المقال، نستكشف كيف يؤثر هذا الصراع على الاقتصاد العالمي، وأثره على الابتكار، وكيف يمكن أن يعيد تشكيل ملامح النظام العالمي في السنوات القادمة.

تزدهر أنواع جديدة من الحوسبة، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي ومعالجة البياناتوسيرتفع الطلب أكثر مع ربط المزيد من الآلات الصناعية وتزويدها بأجهزة استشعار وتبلغ قيمة هذه الصناعة أكثر من 580 مليار دولار (466 مليار جنيه استرليني)، ولكن حتى هذا الرقم يتناقض مع أهميتها للاقتصاد العالميإن وجودها يزود سلعًا وعمليات بقيمة عدة تريليونات من الدولاراتوبدونها فإن الاقتصاد العالمي سيتوقف تماما. ولذلك، فإنه مصدر قلق للكثيرين أن أكثر من 90% من أشباه الموصلات في العالم يتم تصنيعها في المكان الذي يعتقد العديد من المسؤولين الأمريكيين أنه قد يكون موقع الصراع العالمي.

الخلاصة أن الاقتصاد العالمي بكافة قطاعاته والصناعة بكافة أنواعها وأشكلها المختلفة لا يمكن لها الاستغناء عن هذه الرقاقة التكنولوجية، وقبل الحديث عن الصراع العالمي على هذه الرقاقة، نعرض لمفاهيم وأهمية الصناعة والوزن النسبي لها فيما يتعلق بالحث العلمي والتطوير.

ما هي أشباه الموصلات؟

 هي مكونات عالية التخصص توفر الوظائف الأساسية للأجهزة الإلكترونية لمعالجة البيانات وتخزينها ونقلها. معظم أشباه الموصلات اليوم عبارة عن دوائر متكاملة ، يشار إليها أيضًا باسم “الرقائق،  الرقاقة عبارة عن مجموعة من الدوائر الإلكترونية المصغرة تتكون من أجهزة منفصلة نشطة (ترانزستورات ، ثنائيات) ، وأجهزة سلبية (مكثفات ، مقاومات) والوصلات البينية بينها ، على طبقة رقيقة من مادة شبه موصلة ، عادةً السيليكون. وتعد أشباه الموصلات جزءًا مهمًا من حياتنا. تخيل الحياة بدون أجهزة إلكترونية. لن تكون هناك هواتف ذكية أو أجهزة راديو أو تلفزيونات أو أجهزة كمبيوتر أو ألعاب فيديو أو معدات تشخيص طبية متطورة، وتعد أشباه الموصلات أساس صناعة الإلكترونيات الحديثة، حيث يتم استخدامها في جميع الأجهزة الإلكترونية التي نستخدمها في حياتنا اليومية، مثل الهواتف المحمولة، والأجهزة اللوحية، والأجهزة الذكية، والأجهزة المنزلية، والسيارات، وغيرها الكثير.

أشباه الموصلات هي منتجات معقدة للغاية لتصميمها وتصنيعها، نتيجة لذلك ، تقدم صناعة أشباه الموصلات كلاً من البحث والتطوير المرتفع وكثافة رأس المال العالية، بشكل عام، نقدر أنه في عام 2019 استثمرت الصناعة حوالي 90 مليار دولار في البحث والتطوير و 110 مليار دولار في الإنفاق الرأسمالي على مستوى العالم عبر جميع الأنشطة في سلسلة القيمة، يمثل هذان الرقمان مجتمعين ما يقرب من 50 ٪ من 419 مليار دولار في مبيعات أشباه الموصلات العالمية في نفس العام،  كما هو موضح في الشكل 1 أعلاه ، بينما يتم إجراء 65٪ من إجمالي الاستثمار في البحث والتطوير في الصناعة (باستثناء الأبحاث السابقة للمنافسة) في طبقة التصميم لسلسلة القيمة ، هناك أيضًا نشاط بحث وتطوير هام في EDA و IP الأساسي ومعدات أشباه الموصلات وتصنيع الرقائق .

فالبحث العلمي والتطوير من أهم مدخلات عمية التصميم، والتي تعتبر عملية معقدة بالنسبة لصناعة الرقائق الإلكترونية،  في عام 2020 ، بلغ الإنفاق الرأسمالي العالمي على أشباه الموصلات 109.1 مليار دولار، و ارتفع هذا الإنفاق بنسبة 15 % إلى 125 مليار دولار في عام 2021 .

صراع القوى العظمى على مستقبل التكنولوجيا:

الصراع بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين على أشباه الموصلات يمثل واحدة من أبرز مظاهر التنافس الجيوسياسي والتكنولوجي في القرن الحادي والعشرين. يُعتبر هذا القطاع حيويًا لتطوير التكنولوجيا الحديثة، ويتضمن مجموعة واسعة من التطبيقات التي تشمل الهواتف الذكية، الحواسيب، السيارات الكهربائية، والأجهزة الإلكترونية الأخرى.

يتداخل هذا الصراع مع قضايا الاقتصاد والأمن الوطني، مما يجعله محورًا أساسيًا في العلاقات الدولية المعاصرة. صراع القوى العظمى على مستقبل التكنولوجيا هو قضية معقدة تتداخل فيها عوامل اقتصادية وسياسية وعسكرية وثقافية. تسعى الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة والصين إلى الهيمنة في مجالات التكنولوجيا المتقدمة، مما يؤثر بشكل كبير على النظام العالمي.

لعب أشباه الموصلات دورًا محوريًا في الاقتصاد العالمي. فهي ضرورية لقطاعات الصناعة الرئيسية، مثل التكنولوجيا والاتصالات والتصنيع، كما ذكرنا ذلك من قبل، وفي السنوات الأخيرة، زادت أهمية أشباه الموصلات بشكل كبير. ويرجع ذلك إلى زيادة الطلب على الإلكترونيات الحديثة، وتطور تقنيات جديدة مثل الذكاء الاصطناعي والواقع الافتراضي. هذا الزيادة في الطلب على أشباه الموصلات أدى إلى زيادة المنافسة بين الدول الكبرى وتسعى الولايات المتحدة والصين إلى الهيمنة على صناعة أشباه الموصلات.

هذه المنافسة بين الدول الكبرى تثير مخاوف بشأن الصراع العالمي. هناك مخاوف من أن يؤدي هذا الصراع إلى تعطيل الإمدادات العالمية لأشباه الموصلات، مما قد يؤدي إلى آثار خطيرة على الاقتصاد العالمي.

بالإضافة إلى أن تايوان تلعب دورًا محوريًا في صراع القوى العظمى بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين حول أشباه الموصلات، وهي تعتبر أحد المراكز الرئيسية لإنتاج هذه التقنية المتقدمة في العالم.

تظل تايوان موضوع نزاع بين الصين وواشنطن. تعتبر الصين تايوان جزءًا من أراضيها، بينما تدعم الولايات المتحدة التوجهات الديمقراطية في تايوان وتعتبرها شريكًا استراتيجيًا. هذه الديناميات تزيد من تعقيد الصراع على أشباه الموصلات، حيث يمكن أن يؤثر أي تصعيد في التوترات بين الصين وتايوان على سلسلة الإمداد العالمية لأشباه الموصلات.

كما تتزايد المخاوف في تايوان بشأن احتمال تعرضها لهجوم من الصين، وهو ما دفع الحكومة التايوانية إلى تعزيز قدراتها الدفاعية. في الوقت نفسه، تعزز الولايات المتحدة تعاونها العسكري مع تايوان، مما يزيد من المخاطر الجيوسياسية في المنطقة.

الخلاصة تايوان ليست مجرد لاعب في صناعة أشباه الموصلات، بل هي أيضًا ساحة معركة استراتيجية في صراع القوى العظمى بين الولايات المتحدة والصين. تُظهر الأحداث في تايوان كيف يمكن للسيطرة على التكنولوجيا المتقدمة أن تؤثر على العلاقات الدولية والأمن العالمي. من خلال تقديم الدعم لتايوان، تحاول الولايات المتحدة ضمان استقرار سلسلة الإمداد في أشباه الموصلات، بينما تسعى الصين إلى تعزيز سيطرتها على المنطقة.

العوامل المساهمة في الصراع العالمي على أشباه الموصلات:

هناك عدد من العوامل التي تساهم في الصراع العالمي على أشباه الموصلات، منها:

التركيز الشديد لصناعة أشباه الموصلاتتركز صناعة أشباه الموصلات في عدد قليل من البلدان، بشكل أساسي في تايوان وكوريا الجنوبية والولايات المتحدة. هذا التركيز يجعل الإمدادات العالمية لأشباه الموصلات عرضة للاضطرابات.

الزيادة في الطلب على أشباه الموصلاتزاد الطلب على أشباه الموصلات بشكل كبير في السنوات الأخيرة. هذا الزيادة في الطلب يزيد من أهمية أشباه الموصلات، مما يجعلها هدفًا للصراع العالمي.

المنافسة بين الدول الكبرىتسعى الولايات المتحدة والصين إلى الهيمنة على صناعة أشباه الموصلات. هذه المنافسة تؤدي إلى زيادة الاستثمار في البحث والتطوير والتكنولوجيا الجديدة، مما يزيد من حدة الصراع.

الآثار المحتملة للصراع العالمي على أشباه الموصلات:

يمكن أن يكون للصراع العالمي على أشباه الموصلات آثار خطيرة على الاقتصاد العالمي، منها:

ارتفاع أسعار الإلكترونياتتعتمد العديد من المنتجات الإلكترونية على أشباه الموصلات. إذا زادت تكلفة أشباه الموصلات، فمن المرجح أن ترتفع أسعار هذه المنتجات أيضًا.

نقص في المنتجات الإلكترونيةإذا لم تستطع الشركات الحصول على أشباه الموصلات، فقد لا تتمكن من إنتاج المنتجات الإلكترونية التي تحتاجها. هذا يمكن أن يؤدي إلى نقص في المنتجات الإلكترونية، مما قد يؤثر على الاقتصاد العالمي.

تعطيل الإنتاجيمكن أن يؤدي نقص أشباه الموصلات إلى تعطيل الإنتاج في العديد من القطاعات الصناعية. على سبيل المثال، قد يواجه مصنعو السيارات صعوبة في إنتاج السيارات إذا لم يتمكنوا من الحصول على أشباه الموصلات اللازمة لصنع الرقائق الإلكترونية.

وهذه العوامل أدت إلى احتدام الصراع بين الولايات المتحدة الأمريكية التي تهيمن على الصناعة، وبين الصين، وتريد الولايات المتحدة منع حدوث ذلك وفي العام الماضي، فرضت إدارة بايدن قيوداً صارمة لمنع الصين من الوصول إلى الرقائق المصنوعة باستخدام التكنولوجيا الأمريكية في أي مكان في العالم.

وفي مارس أعلنت هولندا انضمامها لاتفاقية الولايات المتحدة واليابان لتقييد تصدير تكنولوجيا تصنيع الرقائق المتقدمة ويبدو أن الاستراتيجية الأمريكية نجحت إلى حد ما، ففي الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2023، انخفضت واردات الصين من الرقائق بنسبة 23% مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق

ومن أجل بسط نفوذها اتخذت الولايات المتحدة بعض الاجراءات منها قاعدة المنتج الأجنبي المباشر (FDPR) هي قاعدة قانونية تابعة لوزارة التجارة الأمريكية تسمح للحكومة الأمريكية بحظر تصدير المنتجات التي تم تصنيعها باستخدام تكنولوجيا أمريكية إلى دول معينة.

ويتم استخدام هذه القاعدة كأداة أمنية وطنية للحد من انتشار التكنولوجيا الأمريكية الحساسة إلى الدول التي تعتبرها الولايات المتحدة تهديدًا لأمنها القومي وبشكل عام، تنص قاعدة FDPR على أنه إذا تم استخدام تكنولوجيا أمريكية في تصنيع منتج ما، فإن الحكومة الأمريكية لديها الحق في حظر تصدير هذا المنتج إلى دول معينة ويتم تحديد هذه الدول من قبل وزارة التجارة الأمريكية بناءً على عوامل مثل التهديدات الأمنية، والعلاقات الدبلوماسية، والالتزام بحقوق الإنسان.

وقد تم استخدام قاعدة FDPR في عدد من المناسبات لفرض حظر على تصدير المنتجات إلى دول مثل الصين وروسيا. وفي عام 2020، استخدمت الولايات المتحدة قاعدة FDPR لحظر تصدير الرقائق الإلكترونية إلى شركة Huawei الصينية، وذلك بسبب مخاوف من أن تستخدم الشركة هذه الرقائق في تطوير تكنولوجيا عسكرية.

أشباه الموصلات

وفيما يلي بعض الأمثلة على المنتجات التي يمكن أن تخضع لقاعدة FDPR:

  • المنتجات الإلكترونية، مثل الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية والحواسيب المحمولة.
  • المنتجات العسكرية، مثل الأسلحة والمعدات العسكرية.
  • المنتجات الحساسة، مثل التكنولوجيات النانوية والذكاء الاصطناعي.

وبشكل عام، يمكن أن تؤثر قاعدة FDPR بشكل كبير على التجارة العالمية، حيث أنها يمكن أن تؤدي إلى تقييد أو حظر تصدير المنتجات إلى دول معينة.

وتستخدم تايوان كجزء من الصراع العالمي بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين حيث تقع تايوان في غرب المحيط الهادئ، وتدعي الصين أنها جزء من أراضيها. هناك صراع مستمر بين الصين وتايوان منذ عقود، وقد تصاعدت التوترات في السنوات الأخيرة ، وتعمل السياسات الاستفزازية للإدارة الأمريكية على تأجيج الصراع من خلال الاعتراف بالاستقلال التام لتايوان عن الصين.

تلعب تايوان دورًا رئيسيًا في صناعة أشباه الموصلات العالمية، حيث تعد مصنع العالم لأشباه الموصلات المتطورة في العالم كما بين من قبل ذلك.  وإذا اندلع صراع بين الصين وتايوان، فمن المرجح أن يؤثر ذلك بشدة على صناعة أشباه الموصلات العالمية. قد يؤدي ذلك إلى نقص في أشباه الموصلات، مما سيؤدي إلى ارتفاع الأسعار واضطرابات في سلاسل التوريد. وهناك عدد من السيناريوهات المحتملة لكيفية تأثير الصراع بين الصين وتايوان على صناعة أشباه الموصلات العالمية.

أحد السيناريوهات هو أن الصين ستحاول السيطرة على تايوان من خلال استخدام القوة العسكرية، إذا حدث ذلك، فمن المحتمل أن يؤدي ذلك إلى تدمير المصانع والمنشآت الأخرى في تايوان، مما سيؤدي إلى انخفاض كبير في إنتاج أشباه الموصلات.

سيناريو آخر هو أن الصين ستحاول كسب السيطرة على تايوان من خلال استخدام القوة الاقتصادية. قد تفعل ذلك من خلال فرض عقوبات اقتصادية على تايوان أو من خلال محاولة السيطرة على سلاسل التوريد العالمية لأشباه الموصلات. إذا حدث ذلك، فمن المحتمل أن يؤدي ذلك إلى تعطيل الإنتاج وزيادة الأسعار في جميع أنحاء العالم.

لا يوجد يقين بشأن كيفية تأثير الصراع بين الصين وتايوان على صناعة أشباه الموصلات العالمية. ومع ذلك، من المهم أن تكون على دراية بالمخاطر المحتملة، وأن تكون مستعدًا للتعامل معها.

فيما يلي بعض الإجراءات التي يمكن للشركات اتخاذها للاستعداد لتأثير الصراع بين الصين وتايوان على صناعة أشباه الموصلات العالمية:

تقليل الاعتماد على أشباه الموصلات المصنعة في تايوانيمكن للشركات القيام بذلك من خلال البحث عن موردين بديلين لأشباه الموصلات أو من خلال تطوير قدرات تصنيع أشباه الموصلات الخاصة بها.

زيادة مخزونات أشباه الموصلاتيمكن أن يساعد ذلك في تقليل التأثير على الإنتاج إذا حدث نقص في أشباه الموصلات.

تطوير خطط طوارئيجب أن تتضمن هذه الخطط خططًا بديلاً للإنتاج وخططًا للتعامل مع ارتفاع الأسعار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights