حصن فكري.. الأزهر الشريف في مواجهة الغزو الثقافي

يعتبر الأزهر الشريف أحد أقدم وأهم معالم التعليم الإسلامي في العالم، وهو يعد مركزًا رئيسيًا للفكر الديني والعلمي.
ظل الأزهر على مدار تاريخه الطويل ركيزة أساسية في نشر الفكر الإسلامي المعتدل، ومصدرًا للعلم، ومكانًا لتوحيد الأمة الإسلامية تحت راية الوسطية والاعتدال إلا أن الأزهر لم يكن بعيدًا عن التحديات التي واجهت العالم الإسلامي، خصوصًا في مواجهة الغزو الثقافي الذي سعى إلى تشويه الهوية الثقافية والدينية للأمة.
الأزهر كحصن فكري
تأسس الأزهر الشريف في عام 972 ميلادي ليكون منارة علمية في قلب العالم الإسلامي.
منذ نشأته، كان الأزهر يتسم بطابع أكاديمي ديني بحت، حيث كانت الدراسة في البداية تقتصر على العلوم الشرعية والدينية ولكن سرعان ما تطور ليشمل العلوم العقلية والطب والفلك والرياضيات، مما جعله مركزًا للعلم والمعرفة في العالم الإسلامي. وعلى مر العصور، أصبح الأزهر مركزًا ثقافيًا يربط بين الشعوب الإسلامية، ويبث فيهم أفكارًا تدعو إلى التمسك بالهوية الإسلامية في مواجهة التحديات المختلفة.
الغزو الثقافي محاولات التغيير والتشويه
شهد العالم الإسلامي في العصور الحديثة محاولات متواصلة من القوى الاستعمارية الغربية لفرض ثقافتها على الشعوب الإسلامية، بما في ذلك الغزو الثقافي الذي استهدف النيل من الهوية الإسلامية.
برزت هذه المحاولات بشكل واضح خلال الاستعمار الأوروبي في القرنين التاسع عشر والعشرين، حيث سعت القوى الاستعمارية إلى نشر مفاهيم الغرب ونمط الحياة الأوروبية على حساب الثقافة الإسلامية.
قد بدأت هذه المحاولات تحت مسميات عديدة، مثل التعليم الاستعماري، وفرض اللغة الأجنبية، وتشويه الهوية الدينية من خلال توجيه الشباب إلى قيم وثقافات جديدة، بما يعزز فكرة التفوق الغربي ويضعف ارتباط الشعوب الإسلامية بجذورها الثقافية والدينية.
الأزهر في مواجهة الغزو الثقافي دور العلماء والقيادة الفكرية
في مواجهة هذه المحاولات الاستعمارية، كان الأزهر الشريف هو الصخرة التي تحطمت عليها كل محاولات الغزو الثقافي.
فقد لعب العلماء الأزهريون دورًا كبيرًا في التصدي لهذه الهجمات الفكرية، وكانت رسالتهم تتلخص في إبراز أهمية الحفاظ على الهوية الإسلامية من خلال التعليم والنضال الفكري.
العلماء الأزهريون، منذ بداية الاستعمار، كانت لهم مواقف واضحة في رفض الأفكار الغربية التي حاولت اختراق العقل المسلم.
من بين أبرز هذه المواقف كان دور الشيخ محمد عبده، الذي قام بتطوير المناهج التعليمية في الأزهر لتشمل العلوم الحديثة من جانب، مع الحفاظ على التمسك بالتراث الإسلامي الأصيل من جانب آخر.
بدأ الشيخ محمد عبده دعوته لتحديث الأزهر ليواكب تطورات العصر، وفي الوقت نفسه حذر من خطر الغزو الثقافي على الهوية الإسلامية.
كما ركز على أهمية استخدام العقل في فهم الدين بعيدًا عن التشدد والتطرف.
الأزهر وحركات الإصلاح تعزيز الهوية الثقافية
لم يتوقف دور الأزهر عند مقاومة الغزو الثقافي فقط، بل ساهم أيضًا في تحريك حركات الإصلاح الفكرية والاجتماعية في العالم الإسلامي.
في مصر، كانت حركة الإصلاح الوطني في بداية القرن العشرين من أبرز الحركات التي أطلقها الأزهر بقيادة علماءه، حيث دافع الأزهر عن مفاهيم الحرية والاستقلال الفكري والديني.
كان للشيخ مصطفى عبد الرازق دور بارز في هذا الإطار، حيث جدد الفكر الأزهري وعمل على تطويره ليتناسب مع المتغيرات الجديدة كما دعا إلى تجديد الفكر الديني مع الحفاظ على ثوابت الشريعة الإسلامية.
دور الأزهر في التعليم نشر الوعي الثقافي
إحدى الوسائل الأساسية التي اعتمد عليها الأزهر في مقاومة الغزو الثقافي كانت التعليم.
الأزهر يعتبر المصدر الرئيسي لتعليم ملايين الطلاب من مختلف أنحاء العالم من خلال نظامه التعليمي المتكامل، عمل الأزهر على نشر قيم الإسلام السمحة من خلال مناهج تعليمية لا تقتصر على العلوم الشرعية فقط، بل تشمل أيضًا العلوم الحديثة مثل الطب والهندسة والعلوم التطبيقية، مما جعل التعليم الأزهرى وسيلة أساسية في مواجهة التأثيرات الثقافية الغربية.
كما أن الأزهر حرص على أن تكون مناهجه متوازنة بين الدين والعلم، مع التركيز على ضرورة فهم الدين بشكل عقلاني لا يتنافى مع تطورات العصر.
من هنا أصبح الأزهر مركزًا للتعليم المتكامل الذي يربط بين العراقة الإسلامية والحداثة العلمية.
مبادرات الأزهر لمكافحة التطرف والفكر المتطرف
منذ بداية القرن الواحد والعشرين، وفي ظل زيادة تأثير الجماعات المتطرفة، بادر الأزهر الشريف بإطلاق العديد من المبادرات لمكافحة الفكر المتطرف الذي هو أحد نتائج الغزو الثقافي الفكري.
أطلق الأزهر “مرصد الأزهر لمكافحة التطرف” لمتابعة وتقييم جميع الظواهر الفكرية المتطرفة على الإنترنت، بالإضافة إلى إصدار الفتاوى التي ترفض تفسيرات التشدد والتطرف للإسلام.
كما أطلق الأزهر عددًا من المبادرات الدولية لنبذ العنف والإرهاب مثل “وثيقة الأخوة الإنسانية” التي وقعها شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب مع بابا الفاتيكان.
الأزهر في مواجهة التحديات المستمرة
بمرور الزمن، استطاع الأزهر أن يثبت نفسه كحصن فكري يعزز من قيم الإسلام، ويقاوم محاولات الغزو الثقافي التي حاولت النيل من هوية الأمة الإسلامية.
من خلال الإصلاحات المستمرة، وتطوير المناهج التعليمية، وتعزيز الحوار بين الأديان والثقافات، يظل الأزهر أحد أبرز المعالم الفكرية التي تساهم في الحفاظ على الثقافة الإسلامية، بل ودعوتها للتحديث والتجديد في إطار من التوازن والاعتدال.