تضم مدرسة التلاوة المصرية العديد من الأسماء البارزة التي تعدت شهرتها حاجز الزمان والمكان.
أصوات من الجنَّة تشدو على الأرض، يمتازون بحلاوة الصوت ووضوح المخارج والتمكن من الأحكام والضوابط، فمصر هي مهد التلاوة، وغالبية مشاهير القراء مصريون علموا العالم الإسلامى أصول و«فن» التلاوة بأصوات عبقرية متفردة، وأرسى العديد منهم أسس التلاوة.
كانت تلاوتهم لآيات القرآن الكريم مثار إبهار وتعظيم لكل من استمع إليهم، واستمد من أصواتهم شغفا لفنون التلاوة والإنشاد الدينى الجميل.
من خلال سلسلة تقارير مميزة، يفتح موقع وجريدة «اليوم» نافذة على قصص هؤلاء العظماء، كاشفًا تفاصيل مسيرتهم الفريدة، وبصماتهم المؤثرة في عالم التلاوة، ودورهم في نشر رسالة القرآن الكريم إلى قلوب الملايين.
في هذا التقرير، نروي سيرة القارئ الشيخ محمد صديق المنشاوي الذي كانت تلاوته علامة فارقة، تاركًا إرثًا خالدًا في ذاكرة الأمة.
نشأة في بيت القرآن والتميز المبكر
وُلد محمد صديق المنشاوي عام 1920 في مركز المنشأة بمحافظة سوهاج بصعيد مصر، في عائلة اشتهرت بحبها للقرآن الكريم وتلاوته.
كان والده، الشيخ صديق السيد، قارئًا قديرًا ذاع صيته في مصر وخارجها، وترك بصمات خالدة في الإذاعات العالمية تربى الشيخ محمد في هذا الجو القرآني، حيث كان سماع التلاوة جزءًا من يوميات الأسرة.
ألحقه والده بكتّاب القرية في الرابعة من عمره، وأتم حفظ القرآن الكريم وهو في الثامنة، ليصبح حافظًا متقنًا رغم صغر سنه استكمل تعليمه في علوم القرآن عندما انتقل إلى القاهرة للإقامة لدى عمه، حيث تتلمذ على يد الشيخ محمد مسعود، أحد أعلام القراءات القرآنية.
أظهر المنشاوي منذ صغره تفوقًا ملحوظًا، مما دفع شيخه إلى تقديمه لجمهور السهرات والمناسبات الدينية، حيث لفت أنظار الجميع بحلاوة صوته وقوة أدائه.
مسيرة فنية وروحانية فريدة
مع بلوغه الخامسة عشرة من عمره، استقل المنشاوي في مسيرته كقارئ قرآن، وبدأ في حضور المحافل الدينية وقراءة القرآن في المساجد الكبرى.
تميز أداؤه بتقديم المعاني القرآنية بنبرة خاشعة تُلامس القلوب، مما أكسبه شهرة واسعة في وقت قصير.
لم يكن المنشاوي مجرد قارئ عادي، بل كان سفيرًا للقرآن ينقله إلى مختلف فئات المجتمع بإتقان وروحانية.
مقرئ الجمهورية المصرية المتحدة
اعتماد الشيخ محمد صديق المنشاوي في الإذاعة المصرية كان محطة فارقة في حياته، حيث أصبح قارئًا رسميًا للقرآن الكريم من خلال الإذاعة، ذاع صيته ليصل إلى كل بيت في مصر وخارجها.
منحته الدولة لقب “مقرئ الجمهورية المصرية المتحدة”، وهو لقب يعكس احترام الدولة والمجتمع لموهبته الفريدة.
لم يقتصر دور المنشاوي على المحافل المحلية فقط، بل انتقل صوته إلى الساحة العالمية، حيث مثّل مصر في العديد من المناسبات الدولية كانت أبرز محطاته في إندونيسيا، حيث دعاه الرئيس أحمد سوكارنو للقراءة، ورافقه في هذه الرحلة القارئ الشهير الشيخ عبد الباسط عبد الصمد أثناء تلاوته في إندونيسيا، تأثر الجمهور بشكل كبير وبكوا بحرقة، ما جعل الشيخ المنشاوي رمزًا عالميًا للخشوع والتدبر.
أوسمة وتكريم عالمي
نال الشيخ محمد صديق المنشاوي العديد من الأوسمة الدولية تكريمًا لعطائه منحه الرئيس الإندونيسي وسام الاستحقاق من الطبقة الأولى، وهو أرفع الأوسمة في إندونيسيا.
كما حصل على وسام الاستحقاق من الطبقة الثانية في سوريا، تقديرًا لدوره في نشر تعاليم الإسلام من خلال تلاوة القرآن الكريم.
مدرسة فريدة في التلاوة
تميز الشيخ المنشاوي بأسلوب تلاوة فريد يجمع بين الخشوع والإتقان، حيث كان يُجيد الوقوف عند المعاني وإبرازها بنبرة عذبة تخاطب الأرواح.
أسلوبه في التلاوة لم يكن مجرد أداء صوتي، بل كان وسيلة لتوصيل الرسالة الربانية بأسلوب يشعر المستمعين وكأنهم يعيشون معاني الآيات.
لا تزال تسجيلات الشيخ المنشاوي تُبث في الإذاعات العالمية، وتُعدّ مرجعًا للباحثين عن التلاوة القرآنية المتميزة.
أثره لم يقتصر على المستمعين العاديين، بل كان مصدر إلهام لكثير من القراء الذين جاءوا بعده.
صبر في مواجهة المرض
ابتُلي الشيخ المنشاوي في سنواته الأخيرة بمرض دوالي المريء، الذي تسبب في معاناة كبيرة ومع ذلك، لم يمنعه المرض من مواصلة رسالته في نشر القرآن الكريم.
ظل يقرأ ويؤدي واجبه حتى توفاه الله في عام 1969، تاركًا خلفه إرثًا خالدًا من التلاوات التي لا تزال تُنير قلوب الملايين.
ترك الشيخ محمد صديق المنشاوي إرثًا عظيمًا يتمثل في تسجيلات صوتية خلّدت صوته الخاشع وأسلوبه المميز في التلاوة يُعدّ من أبرز القراء الذين نشروا تعاليم الإسلام ورسالة القرآن للعالم، مما جعله مثالًا يُحتذى به في الإخلاص والعمل الدؤوب.
