الشيخ محمود خليل الحصري.. صوت القرآن الخالد ورائد القراءات العشر

تضم مدرسة التلاوة المصرية العديد من الأسماء البارزة التي تعدت شهرتها حاجز الزمان والمكان أصوات من الجنَّة تشدو على الأرض، يمتازون بحلاوة الصوت ووضوح المخارج والتمكن من الأحكام والضوابط .
مصر هي مهد التلاوة، وغالبية مشاهير القراء مصريون علموا العالم الإسلامى أصول و«فن» التلاوة بأصوات عبقرية متفردة، وأرسى العديد منهم أسس التلاوة، وكانت تلاوتهم لآيات القرآن الكريم مثار إبهار وتعظيم لكل من استمع إليهم، واستمد من أصواتهم شغفا لفنون التلاوة والإنشاد الدينى الجميل.
من خلال سلسلة تقارير مميزة، يفتح موقع وجريدة «اليوم» نافذة على قصص هؤلاء العظماء، كاشفًا تفاصيل مسيرتهم الفريدة، وبصماتهم المؤثرة في عالم التلاوة، ودورهم في نشر رسالة القرآن الكريم إلى قلوب الملايين.
في هذا التقرير، نروي سيرة القارئ الشيخ “محمود خليل الحصري” الذي كانت تلاوته علامة فارقة، تاركًا إرثًا خالدًا في ذاكرة الأمة
في قرية شبرا النملة الصغيرة، التابعة لمدينة طنطا بمحافظة الغربية، ولد الشيخ محمود خليل الحصري عام 1917 منذ نعومة أظفاره، كان والد الشيخ حريصًا على تربيته في أجواء دينية، فأدخله الكُتّاب في سن الرابعة ليبدأ حفظ القرآن الكريم، تلك المهمة التي أتمها في عمر الثامنة بفضل مثابرته الفريدة.
لم تكن هذه البداية العادية إلا إشارة لما سيحققه الشيخ لاحقًا من إنجازات جعلته واحدًا من أعظم قراء القرآن في التاريخ الإسلامي.
رحلة العلم.. من الكُتّاب إلى علوم القراءات
بعد إتمام حفظه للقرآن، حصل الشيخ الحصري على شهادة “علم القراءات”، التي أهلته لدراسة مختلف علوم القرآن بعمق تميز بصوت رخيم وأداء شديد الجمال، ما لفت الأنظار إليه منذ سنوات شبابه.
قرر التفرغ الكامل لدراسة علوم القرآن، متقنًا القراءات العشر بجميع رواياتها وأسانيدها المتصلة، وهو ما جعل تلاوته نموذجًا للإتقان والجمال.
التألق عبر إذاعة القاهرة
في عام 1944، أطلق الشيخ الحصري أولى خطواته نحو الشهرة الواسعة بتقدمه لامتحان الإذاعة المصرية، الذي اجتازه بتفوق، محققًا المركز الأول بين المتقدمين.
هذا الإنجاز جعله أحد قراء الإذاعة المعتمدين، ليبدأ في نشر صوته العذب من خلال أثير إذاعة القرآن الكريم، التي ساهمت في دخوله قلوب الملايين من المسلمين حول العالم.
من طنطا إلى الحسين.. مسيرة التفوق
في عام 1950، عُيّن الشيخ قارئًا للمسجد الأحمدي بطنطا، حيث استمر في تقديم تلاوات مميزة جلبت إليه مزيدًا من الشهرة. وفي عام 1955، نُقل إلى القاهرة ليصبح قارئًا رسميًا لمسجد الإمام الحسين، أحد أشهر المساجد في مصر.
دعوة لإحياء التراث القرآني
كانت رؤية الشيخ الحصري تتجاوز حدود التلاوة؛ فقد كان مؤمنًا بدوره في خدمة كتاب الله بادر بالدعوة إلى إنشاء نقابة خاصة بقراء القرآن الكريم، تُعنى بشؤونهم وتضمن حقوقهم.
كما دعا إلى تأسيس مكاتب لتحفيظ القرآن الكريم في كل مدينة وقرية مصرية، إدراكًا منه لأهمية الحفاظ على الأجيال الجديدة متصلة بكتاب الله وعلى الصعيد الشخصي، قام بتشييد مسجد ومكتب لتحفيظ القرآن في القاهرة، كإسهام مباشر منه في تحقيق هذا الهدف.
التخصص في القراءات العشر والريادة الدولية
في عام 1957، تولى الشيخ الحصري منصب مفتش المقارئ المصرية، حيث أسهم في تطوير نظام الإقراء بمصر، ما أتاح انتشارًا أوسع للقراءات الصحيحة.
شهادة من الأزهر الشريف
في عام 1958، تمكن الشيخ من الحصول على شهادة “علوم القراءات العشر الكبرى”، التي تُعد أرفع درجات التخصص في هذا المجال، ما جعل منه مرجعًا لا يُضاهى في علم القراءات.
أول قارئ مصري مبعوث دوليًا
في عام 1960، جرى اختيار الشيخ الحصري كأول قارئ مصري يُبتعث لزيارة المسلمين في الهند وباكستان.
هناك، تلا القرآن في المؤتمر الإسلامي الأول بالهند بحضور الرئيس المصري جمال عبد الناصر، ورئيس الوزراء الهندي جواهر لال نهرو، ليترك بصمة دولية لافتة ساعدت في نشر جمال التلاوة المصرية في الأوساط العالمية.
شيخ عموم المقارئ المصرية
في عام 1961، عُيّن الشيخ الحصري في منصب شيخ عموم المقارئ المصرية، وهو منصب رفيع يعكس مكانته الكبيرة بين علماء وقراء القرآن.
تسجيل المصحف المرتل.. خطوة غير مسبوقة
تسجيل رواية حفص عن عاصم
في عام 1961، كان الشيخ الحصري أول من سجل المصحف المرتل في العالم، برواية حفص عن عاصم، ليصبح صوته مرجعًا أساسيًا للقراء حول العالم. ظلت إذاعة القرآن الكريم المصرية تقتصر على إذاعة تلاوته منفردة لعشر سنوات متتالية، ما رسخ مكانته كصوت القرآن الأول.
تسجيل رواية ورش عن نافع
لم تتوقف جهوده عند هذا الحد؛ ففي عام 1964، سجل المصحف المرتل برواية ورش عن نافع، ليضيف إنجازًا جديدًا لخدمة علوم القرآن الكريم، ويصبح مرجعًا رئيسيًا للروايات المختلفة.
التكريمات والإنجازات
وسام العلوم والفنون
في عام 1967، حصل الشيخ الحصري على وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى، تكريمًا لإسهاماته البارزة في علوم القرآن ونشره.
المؤلفات الخالدة
إلى جانب التلاوة، كان الشيخ الحصري غزير الإنتاج في التأليف. ترك عددًا من الكتب القيمة التي تُعد مراجع أساسية في علم القراءات، أبرزها:
“أحكام قراءة القرآن الكريم”: دليل عملي لضبط التلاوة.
“القراءات العشر من الشاطبية والدرة”: مرجع شامل للقراءات.
“معالم الاهتداء إلى معرفة الوقف والابتداء”: كتاب متخصص في فن الوقف.
“الفتح الكبير في الاستعاذة والتكبير”: يتناول أحكام الاستعاذة والتكبير.
“أحسن الأثر في تاريخ القراء الأربعة عشر”: دراسة تاريخية عن القراء العظام.
وصية الشيخ وحياته الأخيرة
كان الشيخ الحصري مثالًا للإخلاص لكتاب الله حتى آخر أيام حياته. أوصى بثلث أمواله لخدمة القرآن الكريم وحفظته، وللإنفاق في وجوه البر المتعددة.
وفي 24 نوفمبر 1980، رحل الشيخ محمود خليل الحصري عن عالمنا، لكنه ترك إرثًا خالدًا من التلاوات، والمؤلفات، والمبادرات التي ما زالت تلهم الأجيال الجديدة في علوم القرآن الكريم.