المولالاة الفلسطينية والنواح الصعيدي والكارابيلا الجزائرية.. كيف واجهت النساء الفقد بالغناء؟

لم تكن الموسيقى مجرد وسيلة للترفيه، بل كانت أداة للتعبير عن المشاعر العميقة عبر التاريخ وتوثيق الأحداث، ومقاومة الاضطهاد.
وفي المجتمعات العربية، حملت الأغاني الحزينة، التي أدتها النساء تحديدًا، بصمات الغربة والحنين والمقاومة، حيث عكست واقع التهجير، والاحتلال، وتغير القيم الاجتماعية.
ومن “الترويدة” الفلسطينية التي شكلت شفرة للتواصل مع الثوار، إلى “بيبة” المصرية التي وثقت مرارة الهجرة في الصعيد، مرورًا بـ “أصحاب البارود والكارابيلا” الجزائرية التي تحولت من نشيد ثوري إلى أغنية تراثية، نجد أن هذه الأغاني ليست مجرد ألحان عابرة، بل ذاكرة جمعية تقاوم الاندثار.
الترويدة الفلسطينية: الشفرة السرية للثوار
تُعد “الترويدة” أو “المولالاة” جزءًا أصيلًا من الفلكلور الفلسطيني، وتعود أصولها إلى الكفاح ضد الانتداب البريطاني في ثلاثينيات القرن العشرين.
وقد نشأت هذه الأغنية في القرى الفلسطينية، حيث استخدمت النساء إيقاعات بطيئة مفعمة بالشجن لنقل رسائل مشفرة للثوار المختبئين في الجبال.
أحد الأساليب الفريدة في الترويدة كان إضافة حروف مكررة، مثل اللام في “شمالي لالي يا هوالي”، مما جعل فك رموزها صعبًا على الجنود البريطانيين.
ولم تقتصر الترويدة على الأغراض العسكرية، بل تحولت إلى وسيلة للنساء للتواصل مع أحبائهن في ظل القيم الاجتماعية الصارمة.
وكانت هذه الأغاني تحمل رسائل الحب، الانتظار، والشوق، لكنها كانت ملفوفة بالغموض كي لا تثير الريبة.
مثال من ترويدة شمالي:
“شمالي لالي يا هوالي لديرة شمالي لالي يا رويللووو (شمالي يا هوا الديرة شمالي)
وأنا ليليلبعث معليلريح الشمالي لالي يا رويللووو (وأنا الليلة لبعث مع الريح الشمالي)
يا طيرلرش روح للي للحباب واصلللهم يا رويللووو (يا طير روح للأحباب ووصل لهم)
واليوم، رغم التطور الثقافي والاجتماعي، لا تزال الترويدة تحتفظ بمكانتها في التراث الفلسطيني، إذ يتم إحياؤها في المناسبات الوطنية والفنية كجزء من مقاومة محو الهوية.
“بيبة” المصرية: نواح الصعيد على الغربة
في جنوب مصر، حيث عانت القرى الصعيدية من موجات الهجرة القسرية إلى دول الخليج خلال السبعينيات والثمانينيات، نشأت أغنية “بيبة” كتعبير عن الحزن والفقد.
وكتبها الشاعر عبد الرحمن الأبنودي، ولحّنها الموسيقار ياسر عبد الرحمن، وظهرت في فيلم عرق البلح، الذي تناول آثار الغربة على المجتمع الصعيدي.
وتحمل كلمات “بيبة” بساطة نابعة من ثقافة الصعيد، حيث تصور معاناة النساء اللواتي تركهن أزواجهن بحثًا عن لقمة العيش. وتعكس الأغنية أيضًا الانكسار الاجتماعي الذي حلّ بالقرى، حيث انقلبت الأدوار التقليدية، واضطرت النساء لتحمل أعباء الحياة وحدهن.
كلمات بيبة:
“بيبه.. عمى حمادة.. بيبه.. جابلى طبج (طبق) بيبه.. مليان نبج (من النبق وهو نوع فاكهة) بيبه جالى كلي بيبه.. قولتله ما اكلشى (مش هاكل) بيبه.. وديه لامك، بيبه.. امى بعيد.. بيبه آخر الصعيد.. بيبه.. و الصاعد مات (الصاعد هو الرجل الذي يتسلق النخل لجمع البلح) بيبه.. خلف بنات (وهو الأمر غير المحبب في الصعيد لحبهم في إنجاب الذكور) بيبه.. خلف بنيه، بيبه.. جد الجطية (القطية وهو طائر صغير صوته جميل كالكروان وهنا معناها بأنها صغيرة الحجم)، بيبه.. خدها علي (تعني أنها تزوجت من رجل يسمى علي) بيبه.. خدها بدبايح (تعني بأن كان مهرها غاليًا اعتمد على الولائم بدبح الخرفان والمواشي) بيبه .. و السمن سايح (وهنا المعنى يسترسل في وصف ما قدمه علي مهرًا لعروسه من السمن البلدي المعروف بثمنه الباهظ)”.
ويبرز في الأغنية إحساس القهر والخذلان، حيث ترتبط الغربة بالخيانة والانفصال عن الجذور، وهو ما جعل “بيبة” واحدة من أكثر الأغاني تأثيرًا في تاريخ السينما المصرية.
أصحاب البارود والكارابيلا: نشيد المقاومة ضد الاحتلال
لم يكن الاحتلال الفرنسي للجزائر مجرد غزو عسكري، بل كان مشروعًا استيطانيًا هدفه طمس الهوية الجزائرية.
ومع ذلك، لم تتوقف المقاومة، لا بالسلاح فقط، بل أيضًا بالفن.
في هذا السياق، برزت أغنية “أصحاب البارود والكارابيلا”، التي كانت في الأصل نشيدًا ثوريًا يمجّد المقاتلين الجزائريين الذين حملوا السلاح ضد المستعمر.
والكلمات تمزج بين الحماسة والتحدي، وتحمل معاني الشجاعة والإصرار:
“أصحاب البارود والكارابيلا رافدين البارود وشاعلين الفتيلا”
كانت هذه الأغنية تؤدى في السراديب والمجالس المغلقة، لكنها انتشرت لاحقًا وتحولت إلى جزء من الثقافة الشعبية، حتى أصبحت اليوم من الأغاني التي تؤدى في الأعراس، رغم أنها في الأصل تحكي قصة المقاومة.
هذا التحول يعكس كيف تحافظ الشعوب على ذاكرتها التاريخية، حيث تندمج الأغاني الثورية مع التراث الشعبي، وتظل حية في الوجدان الجماعي.
الموسيقى كأرشيف للمقاومة والهوية
ما يجمع بين “الترويدة” الفلسطينية، و”بيبة” المصرية، و”الكارابيلا” الجزائرية، هو أنها ليست مجرد أغانٍ، بل أرشيف شفهي لتاريخ طويل من المعاناة والتمرد.
في ظل الغربة، القهر، ومحاولات التغريب، تصبح الموسيقى أداة مقاومة، تحمي الهوية، وتنقل صوت النساء اللواتي واجهن التهجير والتغيير القسري.
هذه الأغاني لم تكن مجرد شكوى، بل كانت رسالة صمود، وشكلًا من أشكال الاحتجاج الفني الذي يتحدى الزمن والسياسات، ليبقى شاهدًا على روح الشعوب التي رفضت الاستسلام.