في ذكرى رحيله.. محمود شلتوت أول إمام أكبر قاد الأزهر نحو التجديد والتقريب

في التاسع عشر من رمضان عام 1963، فقد العالم الإسلامي أحد أبرز رموزه العلمية والفكرية، الشيخ محمود شلتوت، الإمام الأكبر وشيخ الأزهر، الذي قاد الأزهر نحو مرحلة جديدة من التجديد والتطوير، وساهم في التقريب بين المذاهب الإسلامية، واضعًا رؤية متقدمة للدين الإسلامي تتناسب مع متطلبات العصر.
لم يكن مجرد شيخ أزهري تقليدي، بل كان عالمًا مجددًا، ومصلحًا دينيًا وداعية للوحدة الإسلامية وصاحب مواقف جريئة في قضايا الفقه والفكر الإسلامي.
النشأة والتعليم: البداية في ريف مصر
وُلد الشيخ محمود شلتوت في الأول من يناير عام 1893، بقرية منية بني منصور التابعة لمحافظة البحيرة في بيئة ريفية مصرية تتسم بالالتزام الديني والعادات المحافظة منذ طفولته برز نبوغه العلمي وتعلقه بالقرآن الكريم ما دفع أسرته إلى إلحاقه بالكتّاب حيث حفظ القرآن الكريم في سن مبكرة.
واصل تعليمه في الأزهر الشريف، حيث التحق به في مطلع شبابه، وتلقى العلوم الشرعية على أيدي كبار علماء الأزهر في تلك الفترة. في عام 1918 حصل على شهادة العالمية، وهي أرفع شهادة يمنحها الأزهر آنذاك ليبدأ بعدها مشواره العلمي والتعليمي داخل المؤسسة الأزهرية.
الصعود في المناصب الأزهرية: من مدرس إلى الإمام الأكبر
بعد تخرجه بدأ شلتوت مسيرته في التدريس داخل المعاهد الأزهرية فعمل مدرسًا في معاهد الأزهر المختلفة حيث أظهر قدرة استثنائية في إيصال العلوم الشرعية والفكرية لطلابه، مما جعله يحظى بتقدير العلماء والمشايخ الكبار لم يقتصر دوره على التدريس بل كان مفكرًا ناقدًا ومجددًا يسعى إلى تطوير المناهج الأزهرية وتحديثها لتواكب العصر.
تدرج في المناصب العلمية بالأزهر، حيث عمل مدرسًا في القسم العالي ثم وكيلاً لكلية الشريعة، قبل أن يُختار عضوًا في هيئة كبار العلماء التي كانت أعلى مرجعية دينية في الأزهر ما عكس مدى التقدير الذي حظي به من المؤسسة الدينية.
في عام 1958، تم تعيينه شيخًا للأزهر، ليصبح الإمام الأكبر وهو اللقب الذي استُحدث في عهده ويعكس المكانة الرفيعة لشيخ الأزهر في العالم الإسلامي.
رؤيته الإصلاحية: الأزهر في عهده من التقليد إلى التجديد
عندما تولى الشيخ محمود شلتوت مشيخة الأزهر كانت المؤسسة تواجه تحديات كبيرة تتعلق بدورها في العصر الحديث.
فقد رأى أن الأزهر يحتاج إلى تطوير جذري في مناهجه وتعليمه ليكون قادرًا على مواجهة قضايا العصر والاستجابة لمتطلبات الواقع. ومن أبرز إصلاحاته:
إدخال العلوم الحديثة إلى المناهج الأزهرية، بحيث لا يقتصر التعليم على الدراسات الشرعية فقط بل يشمل العلوم الطبيعية والاجتماعية مما ساهم في تخريج علماء يجمعون بين الدين والمعرفة الحديثة.
تحديث مناهج الفقه بحيث تواكب القضايا الجديدة وكان يؤمن بأن الفقه الإسلامي يجب أن يكون متطورًا بما يسمح بمواكبة التحديات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
الاهتمام بالدراسات القرآنية والتفسير، حيث قدم رؤية عصرية لتفسير القرآن الكريم، تقوم على الفهم العميق للنصوص القرآنية ومقاصدها العامة.
إصلاح نظام التعليم الأزهري بحيث يكون أكثر مرونة ويفتح المجال أمام الطلاب للانخراط في تخصصات متعددة وليس فقط الدراسات الشرعية التقليدية.
التقريب بين المذاهب الإسلامية: خطوة غير مسبوقة
يُعد الشيخ محمود شلتوت من رواد التقريب بين المذاهب الإسلامية حيث رأى أن الخلافات الفقهية لا ينبغي أن تكون سببًا للفرقة بين المسلمين ومن أبرز خطواته في هذا المجال:
إطلاق مبادرة التقريب بين المذاهب الإسلامية، حيث أكد أن المذاهب الإسلامية المختلفة، سواء كانت سنية أو شيعية، ليست سوى مدارس فقهية تسعى إلى تفسير أحكام الشريعة وفقًا لاجتهادات العلماء.
إصدار فتوى تجيز التعبد بالمذهب الجعفري، وهي الفتوى التي أثارت جدلًا كبيرًا في حينها حيث أكد أن المذهب الشيعي الجعفري هو مذهب إسلامي صحيح مثل باقي المذاهب السنية ويمكن لأي مسلم أن يتعبد به.
التعاون مع علماء من مختلف الطوائف الإسلامية، حيث عمل على بناء جسور الحوار بين علماء السنة والشيعة بهدف التقريب بين وجهات النظر وتقليل الفجوة الطائفية.
إسهاماته في مجمع اللغة العربية والفكر الإسلامي
لم يكن دور الشيخ محمود شلتوت مقتصرًا على الأزهر فقط بل امتد تأثيره إلى مجالات أخرى حيث كان عضوًا في مجمع اللغة العربية منذ عام 1946 وساهم في تطوير المصطلحات الإسلامية وتبسيط المفاهيم الدينية لتكون أكثر وضوحًا لعامة الناس.
كما كان له دور بارز في تجديد الفكر الإسلامي حيث رأى أن الإسلام دين عالمي يحتاج إلى تفسير يتناسب مع كل زمان ومكان ولذلك ركز على تقديم قراءة جديدة للنصوص الدينية، تعتمد على الفهم المقاصدي والتفسيرات العقلانية.
مؤلفاته وإرثه العلمي
ترك الإمام محمود شلتوت عددًا من الكتب التي أصبحت مرجعًا في الدراسات الإسلامية والفكر الديني من أبرزها:
“الإسلام عقيدة وشريعة”: وهو كتاب شامل يتناول العقيدة الإسلامية بأسلوب سهل وبسيط.
“الفتاوى”: يضم مجموعة من الفتاوى التي أصدرها الشيخ محمود شلتوت والتي تميزت بالتجديد والمرونة.
“تفسير القرآن الكريم”: قدم فيه رؤية حديثة لتفسير القرآن، تعتمد على مقاصد الشريعة وروح النص القرآني.
وفاته وتأثيره المستمر
في يوم 19 رمضان 1383 هـ، الموافق 25 فبراير 1963 توفي الشيخ محمود شلتوت عن عمر يناهز 70 عامًا بعد رحلة طويلة من العطاء العلمي والفكري. كانت وفاته خسارة كبيرة للعالم الإسلامي لكن إرثه الفكري والعلمي ظل حيًا حيث لا تزال أفكاره في التجديد الديني والتقريب بين المذاهب مؤثرة حتى اليوم.
شيخ الأزهر الذي غير المعادلة
يظل الشيخ محمود شلتوت أحد أهم شيوخ الأزهر في العصر الحديث، حيث نجح في تحويل الأزهر من مؤسسة تقليدية إلى مركز فكري متجدد وأسهم في تعزيز الحوار بين المذاهب الإسلامية، ووضع أسسًا لتفسير عصري للفقه والشريعة ترك إرثًا فكريًا هائلًا ليبقى اسمه محفورًا في تاريخ الأزهر والعالم الإسلامي كرمز للوسطية والتجديد.