
في زيارة وُصفت بأنها الأكثر دلالة منذ اندلاع حرب غزة، اختتم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون زيارته الرسمية إلى مصر بجولة ميدانية في مدينة العريش، على بُعد خمسين كيلومتراً من القطاع المحاصر، ليبعث من هناك برسائل سياسية وإنسانية متزامنة، تتوجها إعلانه نية بلاده الاعتراف رسميًا بدولة فلسطين خلال الأشهر المقبلة.
العريش..منبر إنساني لتحرك سياسي
بينما كان يتفقد مركز تخزين المساعدات الإنسانية في العريش، ومستشفى العريش العام الذي يستقبل مئات الجرحى من غزة، أكّد ماكرون أن زيارته تحمل بُعدًا سياسيًا لا يقل أهمية عن بعدها الإنساني، مضيفًا: “غزة ليست مجرد أزمة إنسانية، بل قضية سياسية تحتاج إلى حل دائم وعادل”.
ولم تمضِ ساعات على انتهاء زيارته حتى صرّح لقناة “فرانس 5” بأن فرنسا تعتزم الاعتراف بدولة فلسطين في غضون أشهر، مرجحًا أن يتم ذلك خلال مؤتمر دولي تنوي باريس ترؤسه في نيويورك خلال يونيو المقبل. وقال: “يجب أن نتحرك نحو الاعتراف بفلسطين، وسنفعل ذلك في الأشهر المقبلة”.
قمة ثلاثية واتصال بواشنطن
زيارة ماكرون إلى مصر شهدت أيضًا قمة ثلاثية جمعته بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والعاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، أكد فيها القادة الثلاثة رفضهم القاطع لخطة التهجير المقترحة من قبل الإدارة الأميركية، وتشديدهم على دعم الخطة العربية لإعادة إعمار غزة دون المساس بحقوق سكانها.
وفي سابقة دبلوماسية لافتة، بادر ماكرون إلى تنظيم اتصال هاتفي مباشر من مقر القمة مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في محاولة لتقريب وجهات النظر بشأن وقف إطلاق النار في غزة وإطلاق سراح الرهائن، إلا أن البيان الرسمي لم يحمل أي مؤشرات عن تقارب حقيقي، وسط استمرار التوتر في العلاقات المصرية–الأميركية.
رسالة إلى إسرائيل.. من العريش
تحمل زيارة العريش، بما تضمنته من لقاءات مع منظمات الإغاثة الدولية وأفراد الهلال الأحمر المصري، رمزية قوية، خصوصًا في ظل تصاعد الانتقادات الدولية للغارات الإسرائيلية على المرافق الطبية والإغاثية، والتي كان أبرزها قصف طواقم إسعاف في رفح يوم 23 مارس، ما أسفر عن مقتل 15 شخصًا.
وبينما تُصعّد إسرائيل من عملياتها العسكرية في القطاع، اختار ماكرون أن يوجه رسائل مباشرة من أقرب نقطة لغزة، مفادها أن الدعم الفرنسي للفلسطينيين لن يتوقف عند حدود الشجب أو الإغاثة، بل سيمتد ليشمل خطوات سياسية ملموسة، أولها الاعتراف المرتقب بدولة فلسطين.
استعادة الدور الفرنسي في الشرق الأوسط
التحركات الفرنسية تعكس أيضًا سعي باريس إلى استعادة دورها كفاعل أساسي في المنطقة، خاصة في ظل انشغال ألمانيا بأزماتها الداخلية، وغياب موقف أوروبي موحد تجاه الحرب في غزة.
ويرى مراقبون أن المبادرة الفرنسية لا تأتي بمعزل عن التوتر مع واشنطن، خصوصًا بعد فرض إدارة ترامب رسومًا جمركية على منتجات أوروبية، ورفضها منح تل أبيب استثناءات رغم زيارة نتنياهو الأخيرة للبيت الأبيض، ما فتح الباب أمام باريس لتعزيز حضورها في الملف الفلسطيني من بوابة سياسية وإنسانية في آن.
هل فرنسا قادرة على مواجهة الضغوط الأمريكية؟
وفي تحليل له، طرح الدكتور مختار غباشي، الأمين العام لمركز الفارابي للدراسات، عددًا من الأسئلة الهامة حول موقف فرنسا في الأزمة الفلسطينية. وقال غباشي في تصريحاته: “هل فرنسا قادرة على لعب دور حاسم في وقف التهجير القسري للفلسطينيين في غزة؟ وهل يمكن أن تشكل باريس، بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي، تحالفًا دوليًا لمواجهة الضغوط الأمريكية على القضية الفلسطينية؟”.
وأشار غباشي إلى أن فرنسا تُعد ثاني أكبر لاعب دولي في المنطقة بعد الولايات المتحدة، ولها علاقات وثيقة مع إسرائيل وأميركا، لكن تحركاتها في القضية الفلسطينية تظل محدودة بسبب هذه العلاقات.
وأضاف: “فرنسا قد تعترف بدولة فلسطينية، ولكن الحسابات تجاه إسرائيل والولايات المتحدة كبيرة جدًا، لذا فإن مساعيها في هذا الاتجاه قد تبقى محكومة بموازنة دقيقة بين علاقتها بهذه القوى الكبرى من جهة، وأهدافها السياسية في المنطقة من جهة أخرى”.
كما تساءل غباشي عن موقف العالم العربي والإسلامي تجاه القضية، مشيرًا إلى أن دول الاتحاد الأوروبي الكبرى مثل فرنسا، وإسبانيا، وأيرلندا، وبلجيكا قد تكون قادرة على الضغط على الولايات المتحدة، إلا أن النجاح في هذا المسار يتوقف على “موقف عربي وإسلامي موحد قادر على الوقوف بوجه الضغوط الأمريكية”.
وأكد غباشي أن “الكلمة السحرية لوقف إطلاق النار أو تهجير الفلسطينيين تظل في يد الولايات المتحدة، ومع ذلك فإن فرنسا قد تساهم بشكل كبير في تعزيز الموقف الفلسطيني في الساحة الدولية”.
أوروبا تقول كلمتها
إذا ما أوفت فرنسا بوعدها بالاعتراف بالدولة الفلسطينية خلال مؤتمر الأمم المتحدة في نيويورك في يونيو، فإن ذلك قد يمثل نقطة تحول تاريخية في مسار الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي.
سيكون هذا أول اعتراف أوروبي كبير منذ عقد من الزمن، وقد يشجع دولًا أخرى على اتخاذ خطوات مشابهة، مما قد يعيد الزخم لحل الدولتين بعد سنوات من الجمود.
وفي وقت تركز فيه إسرائيل على حسابات عسكرية مثل الصواريخ والأنفاق، يبدو أن فرنسا قد بدأت في حساب الاعترافات الدولية.
وحتى الآن، اعترفت 147 دولة من أصل 193 عضوًا في الأمم المتحدة بدولة فلسطين.
وفي مايو الماضي، انضمت كل من إسبانيا وأيرلندا والنرويج إلى قائمة الدول التي اعترفت بالدولة الفلسطينية، ليصل عدد دول الاتحاد الأوروبي المؤيدة لهذا الاعتراف إلى 10 دول، من بينها بلغاريا، قبرص، مالطا، بولندا، السويد، ورومانيا.