حكايات الفنفن

داليدا: “الحياة أصبحت صعبة.. سامحوني”

كتب_جوهر الجمل

في الثالث من مايو 1987، أغلقت داليدا باب غرفتها للمرة الأخيرة، وخلدت إلى نومٍ بلا عودة. لم تكن لحظة انتحارها مجرد خبر، بل صدى موجع لحياةٍ لم يعرف عنها الناس إلا نصف الحكاية، النصف المضيء، البراق، الملون بأضواء المسرح وتصفيق الجماهير، أما النصف الآخر، فقد كان صامتًا، قاتمًا، مليئًا بخيباتٍ تشبه تلك التي نراها في أعين من يُضحِكون الناس وهم يبكون في الداخل.

اليوم، بعد مرور 38 عامًا على رحيلها، لا يزال السؤال يتردد: لماذا انتحرت داليدا؟ ولعل الجواب لا يكمن فقط في نهايتها، بل في محطات الحزن التي ملأت رحلتها، رغم مجدها.

من شبرا إلى باريس.. حلمٌ نبت بين الحارات

وُلدت “يولاندا كريستينا جيجليوتي” في حي شبرا بالقاهرة عام 1933، لأسرة مهاجرة من جنوب إيطاليا، قدّمت لها مصر بداياتها، ومنحتها أول ضوء، لكنها لم تكن بلدًا سهلاً على فتاة تحمل جمالًا لافتًا وطموحًا جامحًا في مجتمع محافظ.

والدها، العازف الكلاسيكي الذي أحب الفن وفرض الانضباط بقبضة من حديد، كان أول من رسم ملامح طفولة داليدا القاسية، وبعد وفاته اضطرت داليدا للعمل كسكرتيرة في شركة أدوية لتساعد أمها الخياطة، كانت الحياة بسيطة، لكن الأحلام كبيرة، وكانت باريس تنتظر.

داليدا.. صوت بسبع لغات ووجع بلغة واحدة

حين حطّت داليدا قدماها في باريس، لم تكن تحمل شيئًا سوى صوتها، وملامحها المتوسطية، وبعض الأمل، فازت بلقب “ملكة جمال مصر” عام 1954، وبدأت تحاول الدخول إلى السينما، لكن الشاشة لم تعتنِ بها كما فعل الميكروفون لاحقًا.

التحوّل للغناء كان الحدث الفارق، بصوتها الدافئ وغنائها بأكثر من سبع لغات، أصبحت داليدا سفيرة للحب الحزين حول العالم، حيث غنت أكثر من 700 أغنية تنقّلت بها بين الإيطالية، والفرنسية، والعربية، والألمانية، والإسبانية، والإنجليزية، أحبها الجمهور، وصفّق لها العالم، لكنها لم تصفق لنفسها يومًا.

النجمة التي أحبها الحزن.. ولم يتركها

لم يكن الحب في حياة داليدا نعمة، بل لعنة متكررة، حيث لاقي كل من أحبّته وكل من أحبّها مصيرًا مأساويًا:

  • زوجها لوسين موريس.. انتحر بعدما رفضت العودة إليه.

  • حبيبها جان سوبيسكي… انتحر كذلك.

  • ثم المغني لويجي تنكو، الذي أطلق النار على نفسه بعد خسارة مسابقة موسيقية، وقد حملت داليدا عار موته بدموعٍ لم تجف.

  • وأخيرًا لوسيو، الذي كان يصغرها بـ12 عامًا، تركها ورحل، بعد أن فقدت طفلها منه، ودخلت في اكتئاب عميق بعد أن أصبحت غير قادرة على الإنجاب، كانت تنزف من الداخل، حتى حين تغني أجمل أغنياتها.

“الحياة أصبحت صعبة”.. فاختارت أن تتوقف

في مساء حزين من ربيع عام 1987، جلست داليدا وحدها في بيتها بباريس، وكتبت ملاحظة صغيرة، اختصرت فيها كل شيء: وهي “La vie m’est insupportable… Pardonnez-moi”، “الحياة أصبحت لا تطاق… سامحوني”.

تناولت داليدا جرعة قاتلة من المهدئات، وأسلمت الروح، لم تكن تهرب من العالم، بل من الفراغ، والوحدة، كانت تهرب من الحظ العاثر الذي ظل يتربص بها في كل لحظة حب.

داليدا.. حين تكون الشهرة قناعًا على وجهٍ مكسور

يظن البعض أن الشهرة تعني السعادة، وأن من تبتسم للجماهير لا تعرف الحزن، لكن داليدا كانت دليلًا حيًا على أن خلف كل نغمة جميلة، قد يكون هناك وجع لا يُحتمل.

إنها الفنانة التي عاشت الأغنية، لا التي غنتها فقط، في كل مرة رددت فيها “Je suis malade” أو “Avec le temps” أو حتى “حلوة يا بلدي”، كانت تعصر قلبها في الكلمات.

إرث لا ينتحر.. وداليدا التي لم تمت

رغم رحيلها، لا تزال داليدا حاضرة في ذاكرة العالم، تُعرض أفلامها، تُذاع أغانيها، وتُحاكى سيرتها في المسارح، مقبرتها في مونمارتر بباريس أصبحت مزارًا لكل من عرف معنى “الحزن الجميل”.

داليدا لم تكن مجرد فنانة، بل كانت ظاهرة، سيدة جمعت بين التناقضات: مصرية المنشأ، إيطالية الدم، فرنسية الانتماء، وإنسانية في الألم.

هل كانت داليدا ضحية الحب؟ أم الشهرة؟ أم فقط قلب لم يتحمل كل هذا العبء؟

مهما كانت الإجابة، يبقى اليقين أنها رحلت باختيارها، لكنها بقيت فينا رغم ذلك، مثل لحن حزين لا ننساه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى