ذاكرة اليوم..عبد الحليم محمود الإمام الفيلسوف الذي أعاد للأزهر استقلاله

في الثاني عشر من مايو عام 1910، ولدت في قرية صغيرة بمحافظة الشرقية بمصر شخصية دينية فريدة ستشكل لاحقًا إحدى أهم ملامح المشهد الإسلامي في القرن العشرين.
إنه الإمام الأكبر الشيخ عبد الحليم محمود، شيخ الأزهر الشريف في سبعينيات القرن الماضي، الذي لم يكن مجرد فقيه تقليدي، بل مفكرًا، وفيلسوفًا، وصوفيًا، حمل على عاتقه مهمة إصلاح مؤسسة الأزهر، وإعادة الاعتبار للفكر الإسلامي الوسطي، في وقت كان فيه العالم العربي يواجه اضطرابات فكرية وسياسية كبرى.
في هذا التحقيق، نرصد سيرة ومسيرة الشيخ عبد الحليم محمود، متوقفين عند أبرز محطات حياته، وإنجازاته العلمية والدعوية، ومواقفه السياسية التي أرست مبادئ الاستقلال الأزهري.
النشأة والتعليم: من ريف الشرقية إلى رحاب الأزهر
ولد عبد الحليم محمود في قرية “أبو أحمد” التابعة لمركز بلبيس، بمحافظة الشرقية، في بيئة ريفية متدينة بدأ تعليمه في الكُتاب، وحفظ القرآن الكريم في سن مبكرة، قبل أن ينتقل إلى القاهرة ليلتحق بالأزهر الشريف، حيث درس أصول الدين والعلوم الشرعية.
بعثة السوربون: شيخ أزهري في معقل الفلسفة الغربية
في ثلاثينيات القرن الماضي، أُوفد عبد الحليم محمود إلى فرنسا ضمن بعثة علمية نادرة، وهناك التحق بجامعة السوربون، حيث حصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة الإسلامية رسالته العلمية تناولت الفكر الإسلامي مقارنة بالفكر الغربي، وهو موضوع أثار اهتمام الوسط الأكاديمي الفرنسي في حينه.
لم تكن إقامته في فرنسا مجرد دراسة أكاديمية، بل كانت تجربة فكرية وإنسانية عميقة فقد أثبت الشيخ الأزهري قدرته على الحوار مع الغرب بلغته، دون أن يتنازل عن ثوابته الإسلامية.
وعند عودته إلى مصر، قوبل بعاصفة من الجدل حول دراسته في الغرب، لكن الشيخ سرعان ما برهن للجميع أنه لم يأتِ بأفكار غريبة، بل عاد أكثر فهمًا للإسلام وأشد تمسكًا بجوهره.
في أروقة الأزهر: من أستاذ إلى شيخ المؤسسة
بعد عودته من فرنسا، شغل عبد الحليم محمود مناصب أكاديمية بارزة داخل الأزهر، منها عمادة كلية أصول الدين، وأمانة مجمع البحوث الإسلامية وكان له دور بارز في تحديث المناهج التعليمية، وإدخال مواد الفلسفة والمنطق في سياقات شرعية تناسب طالب العلم الأزهري.
وفي عام 1973، عُيّن شيخًا للأزهر، في لحظة تاريخية فارقة، إذ كانت المؤسسة تمر بمرحلة حرجة من حيث تأثيرها وفعاليتها، في ظل تدخلات سياسية ومحاولات لتقليص دورها المجتمعي والديني.
استقلال الأزهر: مواجهة الدولة من موقع المسؤولية
واحدة من أبرز محطات حياة الشيخ عبد الحليم محمود كانت معركته لاستقلال الأزهر. ففي عام 1974، صدر مرسوم رئاسي يقضي بتقليص صلاحيات شيخ الأزهر، وهو ما رفضه الإمام بشدة، وقدّم استقالته احتجاجًا.
أدى ذلك إلى أزمة سياسية حقيقية بين الأزهر ومؤسسة الحكم، تدخل على إثرها كبار المسؤولين، وعاد الشيخ إلى موقعه بشرط منحه رتبة “نائب رئيس جمهورية” تكريمًا لدوره.
وكان موقفه ذلك محل تقدير كبير داخل الأزهر وخارجه، فقد أعاد للأزهر مكانته كمؤسسة دينية مستقلة، لها دورها في الإفتاء والتعليم والوعظ دون تدخل سياسي مباشر.
مشروع الشريعة: حلم لم يكتمل
من أبرز إنجازات الشيخ عبد الحليم محمود محاولاته الحثيثة لتطبيق الشريعة الإسلامية من خلال تقنين الأحكام المستمدة من المذاهب الفقهية الأربعة، بشكل يتماشى مع النظام القانوني في الدولة الحديثة.
قام بتشكيل لجان علمية من كبار علماء الأزهر لوضع تصور شامل لدستور إسلامي، وقانون للأحوال الشخصية وفق الشريعة، لكنه واجه مقاومة من جهات متعددة، ولم يكتمل المشروع في حياته.
كما عارض بشدة مشروع قانون للأحوال الشخصية اعتبره مخالفًا للشريعة، وأصدر فتوى علنية ترفض بنوده، مطالبًا بالعودة إلى المرجعيات الفقهية الإسلامية الأصيلة.
التصوف العلمي: قلب عابد وعقل مفكر
كان عبد الحليم محمود من أبرز من أعادوا الاعتبار للتصوف الإسلامي السني المعتدل، وقد ألف عشرات الكتب التي تجمع بين الروحانية والتفكير العقلاني، منها: “قضية التصوف”، “المدرسة الشاذلية الحديثة”، و”الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة”.
رفض الإمام الخرافات والانحرافات التي لحقت بالتصوف، ودعا إلى تصوف عملي أخلاقي، يقوم على التزكية والتهذيب، لا على الطقوس الفارغة.
وكان يرى أن “المتصوف الحق هو من يتحمل أعباء الأمة، لا من ينعزل عنها”، وكان لهذا الطرح تأثير عميق في أوساط الشباب الباحثين عن التدين الروحي المتوازن.
دعم المقاومة ورفض التطبيع
لم يكن الشيخ عبد الحليم محمود بعيدًا عن القضايا السياسية، بل كان له موقف واضح من الصراع العربي الإسرائيلي، إذ أعلن أن حرب أكتوبر 1973 “جهاد شرعي” دفاعًا عن الأرض والعقيدة.
كما رفض بشكل قاطع أي خطوات نحو التطبيع مع الكيان الصهيوني دون استعادة كامل الحقوق الفلسطينية، واعتبر القدس “عقيدة” وليست مجرد قضية سياسية.
صوت على الهواء: منبر إعلامي مؤثر
كان الشيخ عبد الحليم من أوائل العلماء الذين أدركوا أهمية الإعلام في نشر الوعي الديني، فساهم في تأسيس إذاعة القرآن الكريم، وكان ضيفًا دائمًا على البرامج الدينية في الإذاعة والتلفزيون، لا سيما برنامج “حديث الصباح” الذي حقق شهرة واسعة.
الرحيل والإرث
توفي الشيخ عبد الحليم محمود في 17 أكتوبر 1978 عن عمر يناهز 68 عامًا ورغم أن سنواته في مشيخة الأزهر كانت قصيرة، فإنها كانت حافلة بالتحولات والتجديدات التي لا تزال آثارها حاضرة حتى اليوم.
يُلقّبه الكثيرون بـ”غزالي العصر الحديث”، ويعتبره المؤرخون واحدًا من أبرز رموز الإصلاح الديني في القرن العشرين.