“كوبري أخميم” جسر العابرين إلى الموت.. محافظة سوهاج تبحث عن طوق نجاة من بحر الانتحار
تفعيل وحدات الدعم النفسي بمختلف المحافظة

تحقيق آية الكحكي – حشمت عبد الحارث
لم يعد كوبري أخميم الشهير بمحافظة سوهاج مجرد معبر للمواطنين فوق النيل، بل تحوّل في السنوات الأخيرة إلى مسرح لقصص مأساوية متكررة، عنوانها الانتحار هربًا من واقع ثقيل وأحمال نفسية صعبة .. فمن فوق هذا الكوبري، قفزت أرواح، وسقطت أجساد، تاركة خلفها علامات استفهام، وأهالي محطَّمين وأصدقاء لم يصدقوا ما حدث، فهذه الظاهرة التي بدأت تتسع رقعتها، ولم تعد مقتصرة على الشباب العاطل أو المرضى النفسيين، بل تسللت إلى طلاب الجامعات، وفتيات في عمر الزهور، بل وآباء أثقلتهم الهموم .
سوهاج تحتل المرتبة الثالثة في معدلات الانتحار:
وجاءت محافظة سوهاج في المرتبة الثالثة على مستوى الجمهورية بعدد 38 حالة انتحار تم رصدها خلال الفترة الاخيرة، وهو ما يمثل حوالي 11.8% من إجمالي الحالات المرصودة في مصر خلال نفس الفترة وذلك ووفقًا لتقرير المؤسسة العربية لدعم المجتمع المدني وحقوق الإنسان الذي رصد حالات الانتحار في مصر في الفترة من أبريل 2023م حتى مارس 2024م.
سوهاج تتصدر المرتبة الثالثة بحالات الانتحار
كما أشار تقرير آخر صادر في مارس 2024م إلى تسجيل 14 حالة انتحار بين النساء في محافظة سوهاج خلال عام 2023م، مما وضعها أيضًا في المرتبة الثالثة بعد محافظتي القاهرة والجيزة في هذا الجانب المحدد، وتجدر الإشارة إلى أن هذه الأرقام تستند غالبًا إلى ما يتم رصده وتغطيته إعلاميًا، وقد تكون الأعداد الفعلية أعلى أو أقل من ذلك، كما تشير تقارير صحفية متفرقة من بداية عام 2025م إلى وقوع حالات انتحار فردية في المحافظة، مما يعكس استمرار الظاهرة ..
ونرصد في هذا التحقيق أراء خبراء الصحة النفسية وعلم النفس والاجتماع والجانب الديني مع أبرز تلك الوقائع الانتحارية التي شهدتها محافظة سوهاج، ونستمع لشهادات الأهالي وشهود العيان للوقائع:
“كوبري أخميم” مسرح أحزان لانتحارات متتالية:
ليس غريبًا أن يتصدر كوبري أخميم الشهير بالمحافظة، المشهد حين يُذكر الانتحار في سوهاج، فهذا الجسر الحديدي العتيق الذي يربط الشرق بالغرب فوق مياه النيل، تحوّل خلال السنوات الثلاث الأخيرة إلى “نقطة النهاية” لعشرات الشباب الذين ألقوا بأنفسهم من عليه، وعلى سبيل المثال لا الحصر :
الواقعة الأولى ..
شهاب محمد أحمد، الطالب بكلية التمريض بجامعة سوهاج، كان أحد هؤلاء الشباب الذي ألقي بنفسة من أعلى الكوبري في مياه النيل، حيث في مطلع يناير الماضي، كتب آخر كلماته على “فيسبوك”: “ها نحن وقد وصلنا إلى آخر خطوات مسيرتنا، التي شارفت على الانتهاء بذكريات لا تُنسى، إذ لا زالت تسقط واحدة تلو الأخرى، لكن سقوطها لا يعدو أن يكون سقوطًا، من باطن الذكريات إلى سواد العين أو حنايا القلب، وهناك مستقرها، ولنا في الختام لقاء، آسف، “مكنتش قد الاكتئاب.” ثم ألقى بنفسه من أعلى الكوبري، تاركًا وراءه سؤالًا معلقًا: لماذا لم يسمعه أحد؟
وبسؤال والدته عن تلك الرسالة التي تركها شهاب قالت: “ابني كان كويس جدا، وظروفة المادية كويسة .. وفي صباح يوم الواقعة قال رايح افعل الفيزا في سوهاج، وباس فوق رأسي وايدي وقالي مع السلامة .. مكنتش اعرف ان دا وداع ليا .. لكن قبل الحادثة بفترة هو كان عايز يرتبط بوحدة زميلة وحصلت ظروف منعته، لكن معتقدش أن تكون دي سبب في انتحار ابني شهاب .. انا حتى الآن مش مصدقة انه يعمل كده”.
_الواقعة الثانية: محاولة إنقاذ تنتهي بمأساة
في واحدة من أكثر الحوادث ألمًا، حاولت فتاة شابة إلقاء نفسها من أعلى كوبري أخميم في منتصف النيل، لكن شاء القدر أن تنجو هذه الفتاة ويغرق أحد الشباب من المنقذين لها.
وقال أحد شهود العيان ويدعى م. ع، عامل بمقهى مجاور للكوبري: “كانت البنت واقفة فوق السور وبتعيط، ولما حاولنا نكلمها صرخت وقالت “سيبوني.. هارتاح أخيرًا” وجريت ورمت نفسها.. على طول قفز شابين وراها واحد منهم اسمه محمود الأسد، قدر واحد فيهم يمسكها من هدومها وجرها، لكن محمود للأسف غرق واحنا كنا مش عارفين نطلعه، منظر يقطع القلب.”
والد الفتاة صرّح وقتها أن ابنته تعاني من أزمة نفسية شديدة منذ وفاة والدتها، ولم تكن تستجيب للعلاج.
أما والد الشاب محمود الأسد، الذي غرق في محاولة انقاذه للفتاة، فقال باكيًا: “ابني ضحى بحياته عشان ينقذها، وكان دايمًا يقول لو لقيت حد في أزمة مش هفكر وأسعفه.. للأسف ماكانش لسه متجوز ولا شاف حياته.”
_ الواقعة الثالثة: شاب ينتحر في ظروف غامضة
حدث في أبريل 2021، ألقى شاب في منتصف العقد الثالث من عمره بنفسه من فوق كوبري أخميم.
قال الصياد ر. ع.ا، شاهد عيان: “شوفت الشاب ماشي ووشه أصفر، وقف ثواني، وبعدين خلع الجاكيت ورمى نفسه في الميّه.. حاولنا ننقذه بس ماكانش فيه فايدة ملحقناش.”
_الواقعة الرابعة: ربة منزل تنتحر شنقًا
“جيهان ع. م.” (28 عامًا)، أقدمت على إنهاء حياتها داخل شقتها بمدينة سوهاج الجديدة.
وبسؤال زوجها قال: “مراتي كان عندها حالة اكتئاب من بعد الولادة، وسبق قبل كده حاولت تنتحر، ويوم الحادثة دخلت أوضة النوم قفلت الباب، لما اتأخرت كسرت الباب لقيتها معلقة نفسها في المروحة.”
_الواقعة الخامسة: ندى.. ضحية رفض الأهل
ندى ع. ا. ع. (18 عامًا)، طالبة تمريض، انتحرت شنقًا داخل منزل أسرتها.
وبسؤال والدها، صاحب محل دواجن، أوضح: “واحد كان عايز يخطبها، وأنا ووالدتها رفضنا لأنه ماينفعش، زعلت جدًا وبقت منطوية وبتعاني، وفجأة لاقيناها شنقت نفسها بحبل في أوضة النوم.”
_الواقعة السادسة شاب يقفز من شرفة خطيبته
حدث في يونيو 2020، بعد مشادة مع أسرة خطيبته بسبب رفضهم زواجهما، قفز شاب (18 عامًا) من شرفة الطابق الخامس.
وبسؤال خطيبته قالت: “قال لي يا بنت الناس أنا مش هعيش من غيرك، ولما أهلي قالوا لأ، دخل البلكونة وقال سلامي ليكي.. ورمى نفسه.”
_الواقعة السابعة شاب شنق نفسه في منزله
حدث في أغسطس 2020، أنهى شاب (35 عامًا) حياته داخل منزله في بندر أخميم.
وبسؤال شقيقه أكد ” اخي كان بيعاني من اكتئاب جامد، وماكانش بيكلم حد، صحينا الصبح لقيناه معلق نفسه بحبل في الصالة.
_الواقعة الثامنة سيدة مجهولة تنتحر
في يناير 2021، فوجئ المواطن أحمد نجيب، أثناء مروره بكوبري أخميم، بسيدة تلقي بنفسها في النيل.
وبسؤاله قال : “أنا كنت ماشي، لاقيتها بتطلع على سور الكوبري، ماكنتش لابسة عباية ولا حاجة تعرف بيها، كانت ملابس بيت .. فجأة رمت نفسها، جريت على وحدة الإنقاذ لإبلغها لاني معرفش اعوم”
_دوافع الانتحار .. ما بين الحب والفقر والضغط النفسي:
تنوعت الأسباب خلف تلك المآسي، فبين أزمة نفسية لم تجد من يحتويها، وقصة حب فاشلة، وخلافات أسرية لا تنتهي، وضغط اجتماعي واقتصادي يعصف بالشباب، تجد الضحية نفسها أمام جسر أخميم في مواجهة مع الموت.
_رؤية الطب النفسي .. كيف يفكر المنتحرون؟
في إطار ذلك تتحدث الدكتورة مي عبد اللاه استشاري الطب النفسي بمستشفى الصحة النفسية بسوهاج، لجريدة “اليوم” أن العوامل والأسباب التي تؤدي للانتحار، نقسمها لأسباب فردية تخص الفرد نفسه مثل تركيبته الجينية و البيولوجية، تنشئته و ما تم زرعه من مواقف وأحداث وطريقة معاملة مع هذه التحديات فيما يدعي بالمرونة النفسية ثم الأسباب الاجتماعية بوجود أمر حادث يمثل ضغطا أو عبئا أكبر من قدرة الفرد علي التحمل، وجاء أكثر أنواع الشخصيات التي من الممكن لها الاقدام علي الانتحار مثل الشخصيات التي تشعر بتصدع عن العالم وأن لا هناك شخص يفهم أو يهتم ، الشخصيات التي تتحلي “بالايثار” من الأفضل للعالم أن أموت و أريحه مني “، الشخصيات التي تشعر بفقدان هويتها في مجتمع ما “مش قادر أعيش في المجتمع ده ، عمري ما هعرف ألبي احتياجاتي “، الشخصيات التي تعيش في السجون أوفي الضغط المجتمعي أو الحكومي المستمر “من الأفضل أن أموت و أنهي هذه المعاناة” ، ولا ننسي أن حوالي ثلث المنتحرين يعانون من أمراض عضوية تصيبهم باليأس و العزم علي إنهاء الحياة خصوصا هؤلاء الذين يعانون من أمراض مزمنة أو مؤلمة أو مستعصية وأن من 95-90 % منهم تم تشخيصهم باضطراب نفسي ما مثل نصف مرضي الاكتئاب ، القلق ، ثنائي القطب ، الفصام، اضطرابات الشخصية الحدية وغيرها من سوء استخدام العقاقير وادمان المخدرات.
اختلاف حالات الانتحار بالمجتمع:
وتستكمل عبد اللاه في الأغلب أن حالات الانتحار بمحافظة سوهاج كانت سيدة وفتاة وشاب مؤكدة لا تختلف أسباب الانتحار عندهم فكلهم خليط واحد مع وجود أكثر من حالة في وقت واحد بنفس الطريقة يحمل معاني الظاهرة وليس الأسباب الفردية التي تكلمنا عنها وهذه أسبابها ربما ما يدعي انتحار صالات الانترنت cyber suicide مع ترويج لألعاب متعددة تطلب من المراهقين والأطفال ، ابتلاع أشياء أو كتم النفس أو تشريط الجسم بشكل حوت أو خلافه ثم تصوير الانتحار وبثه، أو انتحار متلازمة ويرثر Werther syndrome وفيها ينتحر شخص من مجموعة ممهدا لغيره الطريق ليكملوا علي خطاه copycat suicide،وأحيانا ما يسمي ذكري الانتحار Anniversary suicide ، أن يختار الفرد يوم مات فيه فرد في العائلة منتحرا ليحيي ذكراه كلها من الأسباب التي قد تفسر وجود ظاهرة في وقت واحد في مكان واحد بنفس الطريقة طبعا بدون جزم تشخيصي لان الأمر يخضع لطرق تشخيصية لمعرفة الحقائق.
الحفاظ على الحوار الدائم مع أفراد الأسرة.
_دور الأسرة والمجتمع في الوقاية:
وتشير الدكتورة مي أن دور المجتمع للحد من هذه الظاهرة عند مواجهة تحديات أكبر من قدرة الشخص على المواجهة أو المواكبة فيلجئ لمتخصص as simple as if ،ونلاحظ علامات الخطر علي المحيطين بنا وعلي أولادنا الشخصيات القابلة للإيحاء والتقليد من لعبة أو مجموعة فيما يسمي Cyper suicide وأرجح هنا أنها من الممكن أن تكون تفسيرا لتكرار الظاهرة في سوهاج الآونة الأخيرة وفيها يتفق مجموعة من الأقران عبر لعبة علي الانترنت علي نموذج يبدأ الانتحار ويقلده الآخرين تباعا، ولذلك يجب علينا أن نحافظ علي الحوار الدائم معهم و ترشيح أفكارهم الجيد منها والسيء ، ونحتاط لعلامات الانعزالية ، والاهمال في النظافة الشخصية ، قلة الكلام ، التأخر الأكاديمي ، العصبية ، الكذب و خلافه، ونزود مواطن قوة أولادنا التي تقيهم مثل بنائهم الديني ، مهاراتهم ، ثقتهم بنفسهم ، مشاركاتهم الانسانية والمجتمعية ونضعف مواطن التدمير مثل الخلافات المستمرة بين الأبوين ، عدم وجود استقرار مكاني أو حياتي لهم ، التفرقة بين الأخوة ، المقارنات ، اقحامهم في مشاكل الكبار ، تنحي أحد الأبوين عن دوره الأساسي لرعايتهم أو حمايتهم ، وجودهم مع أصدقاء سوء ، وجود وقت فراغ كبير لديهم ، عدم سماعهم أو فهم احتياجاتهم والكلام عن البلوغ و الحياة والدنيا والدين.
التمسك بعلاقات فعالة ودافئة:
وتنصح الدكتورة مي الجميع بمراجعة شئونهم النفسية ومداواة أرواحهم ، و التمسك بتعاليم دينهم “الأبحاث قالت أن الفرائض الدينية والاعتقادات الدينية إلي حد كبير تعتبر من عوامل الحماية ضد الانتحار” وطبعا هذا ليس الطريقة الوحيدة لكنها مهمة ، التمسك بعلاقات فعالة و دافئة ومحفزة للروح والحياة ، تسهيل الحياة علي بعضنا البعض ، مراجعة متخصص ان لزم الأمر و أخيرا حفظ رقم الخط الساخن للانتحار الذي يمكن اللجوء له في أي وقت.
_رؤية علم الاجتماع .. الانتحار نتاج قوى اجتماعية
وفي نفس السياق يوضح الدكتور خالد أبو دوح أستاذ مساعد بقسم علم الاجتماع بكلية الآداب جامعة سوهاج ،أن بداية يمكن التأكيد على أن الانتحار هو كل حالة وفاة تنجم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة عن فعل إيجابي أو سلبي قامت به الضحية نفسها، وهي تعلم أن هذا الفعل سيؤدي إلى هذه النتيجة (الوفاة) ، مؤكدا عندما نقوم بتحليل ظاهرة الانتحار في أي مجتمع يجب أن نأخذ في اعتبارنا الجوانب الاجتماعية للظاهرة، حيث إن الانتحار ليس مجرد فعل فردي بحت، بل هو نتاج لقوى اجتماعية واتجاهات تؤثر في الأفراد وبعبارة أخرى، أنا أشدد هنا على أن العوامل الاجتماعية تؤدي دورًا حاسمًا في تحديد معدلات الانتحار في مجتمع معين.
رصد حالات الانتحار في مصر
وتابع الدكتور خالد خلال حديثه أن حالات تنامي الانتحار في محافظة سوهاج في الآونة الأخيرة، ووفقًا لتقرير المؤسسة العربية لدعم المجتمع المدني وحقوق الإنسان الذي رصد حالات الانتحار في مصر في الفترة من أبريل 2023م حتى مارس 2024، جاءت محافظة سوهاج في المرتبة الثالثة على مستوى الجمهورية بعدد 38حالة انتحار تم رصدها خلال هذه الفترة، وهو ما يمثل حوالي 11.8% من إجمالي الحالات المرصودة في مصر خلال نفس الفترة مضيفا بأن تحليل وتفسير حالات الانتحار التي وصلتنا معلومات بصددها، أزعم أن غالبية هذه الحالات تعبر عن نمط محدد من الانتحار هو ما يطلق عليه علماء الاجتماع الانتحار اللامعياري أو الفوضوي؛ الذي ينشأ من حالات الاضطراب الاجتماعي أو التغيرات المفاجئة في المجتمع (مثل: الأزمات الاقتصادية أو التحولات السريعة على عديد من المستويات) التي قد تؤدي إلى انهيار المعايير والقيم الاجتماعية، مما يجعل الأفراد يشعرون بالضياع وفقدان التوجيه.
الفقر والبطالة والخلافات الأسرية
وأِشار أبو دوح بأن أبرز الأسباب المحتملة للانتحار في محافظة سوهاج الضغوط الحياتية والاقتصادية فعلى الرغم من عدم تفصيلها بشكل دائم في كل حالة على حدة، إلا أن السياق العام لصعيد مصر عامة، ومحافظة سوهاج خاصة، والذي يشمل تحديات اقتصادية واجتماعية، قد يلعب دورًا كعامل ضغط. خاصة وأن الفقر والبطالة من المشكلات الكبيرة في محافظات الصعيد، بما فيها سوهاج، ويمكن في هذا السياق الربط بين هذه الظروف وبين شعور البعض باليأس، ووفقًا لبيانات أشار إليها تقرير لوزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية (نوفمبر2021 م )، بلغت نسبة السكان تحت خط الفقر الوطني في محافظة سوهاج 59.6%، يليها الأزمات النفسية والاكتئاب والذي يعتبر هذا العامل من الأسباب التي تتكرر لدي العديد من الحالات، حيث تشير بعض الحالات المرصودة إلى أن المنتحرين كانوا يعانون من “أزمات نفسية” أو “اكتئاب شديد” وفي بعض الحوادث، ترك الضحايا رسائل تشير إلى عدم قدرتهم على تحمل الضغوط النفسي، الخلافات الأسرية وتظهر الخلافات والمشاكل داخل الأسرة كأحد العوامل الرئيسة في بعض حالات الانتحار في سوهاج مع سهولة الوصول إلى وسائل الانتحار حيث ذكرت بعض التقارير استخدام مواد سامة مثل “حبة الغلال” السامة كوسيلة للانتحار في سوهاج، مما قد يشير إلى سهولة الحصول عليها كعامل مساهم في بعض الحالات، التنمر والضغوط الاجتماعية والتي أشارت بعض التحليلات العامة لظاهرة الانتحار بين الشباب إلى احتمالية أن يكون التنمر أو الضغوط الاجتماعية الشديدة من بين العوامل التي تدفع البعض إلى هذا الفعل ، مشددا بأن تنامي ظاهرة تعاطي بعض أنواع المخدرات في محافظة سوهاج مما يؤثر على العديد من الشباب، ويجعلهم أقرب لحالات الاغتراب وفقدان الأمل، وضياع المعنى من حياتهم الشخصية والعامة، على الرغم أن الحكومة المصرية والسلطات المحلية والمؤسسات الدينية في سوهاج تقوم بجهود ومبادرات للتوعية بخطورة الانتحار وتقديم الدعم النفسي، مما يعكس إدراكًا لأهمية التعامل مع هذه الظاهرة متعددة الأبعاد ، لافتا إلي هناك حاجة لبذل المزيد من الجهود الحكومية ومبادرات المؤسسات التنموية لمكافحة هذه الظاهرة، من خلال التركيز على أسبابها المباشرة مثل: تنامي معدلات الفقر، وقلة فرص العمل، فمحافظة سوهاج بكل مراكزها وقراها، تحتاج لخطة تنموية شاملة، تنقلها نحو تحقيق التنمية المستدامة على كافة المستويات.
ضعف الوازع الديني والضغوط الحياتية
واتفق الدكتور أحمد موسي أستاذ مساعد بقسم علم النفس، بكلية الآداب جامعة سوهاج ، مع أراء علماء الصحة النفسية وعلم الاجتماع بأنه أعتقد أنها مجموعة من العوامل المتفاعلة المتشابكة لعل أبرزها الضغوط الشخصية و الحياتية والاقتصادية والتقليد في بعض الحالات “يوجد نوع من الانتحار يسمى الانتحار الوسائطي mediated suicide بمعنى أنه ينجم عن تقليد نموذج شاهده الشخص عبر الوسائط الإعلامية مثل منصات التواصل الاجتماعي وغيرها” واحتمال معاناة الشخص المنتحر من مرض مزمن أو مرض عقلي، فتغطية نشرات الأخبار أو التغطية الإعلامية لحالات الانتحار تعمل على احتمال زيادة منتحرين جدد من المستهدفين (ممن يعانون خللا في الصحة النفسية) في الفترة الزمنية ذاتها، فالأمر هنا يحتاج تحفظا في الحديث عن فعل الانتحار، وطريقة الانتحار، وغيرها من التفاصيل التي تشغل بال الأفراد الذين يفكرون في الانتحار، وقد تجعلهم يسارعون في التنفيذ مجرد رواية قراءة رواية عن الانتحار قد يزيد من فعل الانتحار (وهو ما حدث بالغرب عقب نشر رواية الأديب الألماني جوته “آلام فرتر” على سبيل المثال)، كما يأتي تراجع دور المدرسة والمؤسسات الدينية من بين هذه الأسباب بما يجعلهم أقرب لريشة في مهب الريح وهنا يحتاج المجتمع لإعادة تقديم الدور التربوي للمدارس والجامعات، بحيث لا يقتصر أمرها على شهادة المرحلة الدراسية للشخص، وإنما تشكيل فكره وصياغة وجدانه وتعزيز هويته، على نحو يجعله أكثر صلابة وإيمانا ووعيا.
تراجع دور المؤسسات الدينية والمدارس
ويشير الدكتور أحمد بأن المجتمع السوهاجى لا يختلف كثيرا عن بقية المجتمعات بصعيد مصر أو المجتمع المصري ، مؤكدا للأسرة دور مهم في منع المنتحر من الإقدام على فعلته وبخاصة المراهقين وصغار الراشدين، الذي يلتمسون الحب والأمان لدى ذويهم غير أن الأمر في هذه الحقبة الزمنية يجعل دور الأسرة يتراجع في مقابل الرفاق (الشلة) والتقليد والانصياع لضغوط الجماعة ممن هم في نفس عمر المراهق أو الشاب، وتقوم وسائل الإعلام بدور كبير في تشكيل معارف ووجدان النشئ الآن بدرجة تفوق دور الأسرة بكثير، ببريؤؤلافتا بأن كل حالة انتحار مسار يختلف عن غيرها وعلينا البحث عن تاريخ كل حالة على حدة (التدين والصحة النفسية والجسدية وخصوصا احتمال الاكتئاب والمرور بأزمات انفعالية أو اقتصادية أو معاناة وصمة مجتمعية أو مرض مزمن أو غيره).
التغطية الاعلامية وزيادة المنتحرين
وأضاف الدكتور أحمد أن الفكر الانتحاري suicidal ideation يسبق أي سلوكٍ انتحاري ، وفي هذه المرحلة يتغير سلوك الشخص وتتبدل أحواله وغالبا ما يعتل دماغه ويدخل في دائرة مفرغة فهنا مهم على الأسرة والمقربين من الشخص تقديم الدعم والحب لتجاوز هذه المرحلة ، ومحاولة تقديم بدائل إيجابية للشخص أو منحه الأمل بمقتضى الحالة ، ويتسم الفكر الانتحارى بكونه غير محدد مثال ذلك فكرة أن الموت مرحب به لدى الشخص ، وسرعان ما تتطور هذه الأفكار إلى خطط للانتحار، وصولًا لفعل الانتحار ذاته، طالما لم يتدخل طرف من جانب الأسرة أو مؤسسات المجتمع الداعم للشخص، بحيث يتجاوز هذه الفترة التي يقترب فيها من تبدل حالة الدماغ السليم إلى حلقة مفرغة من التفكير السلبي الهدام .
المكون النفسي الروحاني يتأثر بالجسدي
ولفت موسي أن الإنسان منظومة روحانية نفسية اجتماعية جسدية فالمكون الفسيولوجي المتوازن من الناقلات العصبية داخل الدماغ، والهرمونات داخل الجسم تعمل على التفكير المتأني السليم الراشد المسؤول فالأمر أشبه بدائرة؛ المكون النفسي الروحاني يتأثر بالجسدي، ويؤثر فيه كذلك. وبالتالي، نتوقع أن تدين المرء تدينا وسطيا يقربه من الخالق، مع المستوى الاقتصادي المعقول الذي يلبي الاحتياجات الاساسية، ووجود الأمل في الغد، والإحساس بالأمن، والدعم الأسري، وقرب الوالدين، ومعالجتهما لأية مشكلات تتصل بالثقة أو تقدير الذات أو انفطار القلب أو غيرها من أزمات المراهقة والشباب ، كل ذلك يؤثر إيجابا في صحة الدماغ وبالتالي الصحة النفسية للشخص.
الجن والانتحار
وذكر موسي أن المراهقات والسيدات يهددن بالانتحار بدرجة أكبر من المراهقين والرجال، ولكن نسبة انتحار الأولاد والشباب أكبر في التنفيذ الفعلي لدرجة تصل إلى الضعف، وهو التناقض الذي يُعرف باسم مفارقة الجنس في الانتحار ، كما ذكرنا فإن المنتحر يدور في فلك دائرة مغلقة، وغالبا ما يكون قد وصل لحالة من اعتلال الصحة النفسية والدماغ بمعنى أخر، فإنه بشكل تراكمي يصل لدرجة من الإغلاق الذهني ولا يرى عين الرؤية إلا إنهاء حياته. لم تنتهي الدراسات النفسية للدور اليقيني للألعاب الإلكترونية (مثل لحبة الحبار) في زيادة معدلات الانتحار، ولكنها بلا شك تسرع من تنفيذ هذا القرار بين الأفراد مختلي الصحة النفسية ومعتلي الدماغ ومنخفضي التدين ومنخفضي الصلابة النفسية ممن يفتقدون الحب والدعم الأسري ، منوها بأن الجن وفقًا لمحكم التنزيل بيننا المسلمين ليس لهم على بني البشر سلطان ، ولكن توجد هلاوس وضلالات مرضية (علامات المرض العقلي) تدفع الشخص للانتحار، وكأنها مدفوعة من خلال الجن، فالأمر واسع ومتعدد العوامل، ويحتاج لتوعية مجتمعية، وعودة لدور الأسرة والمدرسة، ومراقبة محتوى منصات معينة من التيك توك، والألعاب الإلكترونية العنيفة الإشكالية، وزيادة تقديم الخدمات النفسية وبخاصة أرقام الهواتف المخصصة للأشخاص المستهدفين للانتحار، وتقديمها في إطار تحوطه السرية ويضمن عدم تأثر الشخص بوصمة الانتحار والمرض النفسي.
رأي الدين في قضية الانتحار
قال فضيلة الشيخ حسن شيخون الونيني، عالم من علماء وزارة الأوقاف بسوهاج ان : “النفس ملكٌ لله سبحانه وتعالى، ولا يملك الإنسان حق التصرف فيها كيفما شاء. والانتحار — أي إزهاق الروح عمدًا — يُعد من أعظم الكبائر في الإسلام، وقد جاء الدليل على ذلك في كتاب الله وسُنّة نبيه صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيمًا} ،وفي الحديث الشريف: «من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا».
تفعيل المفاهيم الصحيحة للشباب
ومن هنا، يؤكد الشيخ حسن الونيني إن قتل النفس جريمة دينية وإنسانية، والسبب الأول في وقوع الشباب فيها هو غياب الوعي الديني، فرغم وجود الدين في المجتمع، إلا أن المفاهيم الصحيحة ليست مفعّلة في عقول الشباب وقلوبهم، ولا تصل إليهم بالشكل الكافي، لهذا لا بد أن يتعرف الشباب على دينهم حق المعرفة، لا من خلال عبارات متكررة أو نصوص محفوظة، بل من خلال خطاب ديني واعٍ يلامس قلوبهم، ويعالج مشاكلهم الحقيقية.
دور الأسرة وخطب الجمعة
وهناك أسباب عديدة تؤدي إلى الانتحار، منها الاكتئاب، والضغوط النفسية، والمشاكل الاجتماعية والاقتصادية، مما يجعل دور الأسرة بالغ الأهمية في متابعة أبنائها، ومساندتهم نفسيًا واجتماعيًا، ولا ينبغي أن يقتصر الأمر على الأسرة فقط، بل يجب أن تقوم خطب الجمعة بدور قوي وفعّال في تناول هذه القضية بلغة مبسطة وقريبة من الشباب، كما تُعد الندوات الدينية المفتوحة والحوارية وسيلة هامة لتصحيح المفاهيم المغلوطة.
تفعيل وحدات الدعم النفسي بمختلف المحافظة
وأكد الونيني على أهمية وجود وحدات للدعم النفسي والحوار المفتوح في كل المدارس والجامعات والنوادي والأماكن العامة وللموظفين بمختلف مديرياتهم ويكون مقرها بديوان عام محافظة سوهاج ، لتكون متنفسًا آمنًا يستوعب مشاكل الشباب، ويمنحهم مساحة للتعبير والمشاركة، بعيدًا عن الانغلاق واليأس ، فالوقاية من الانتحار تبدأ بتجديد الخطاب الديني والاجتماعي، وتقديم الدعم النفسي والإنساني للشباب، وتصحيح المفاهيم التي تدفعهم لهذه الجريمة البشعة.”
رأي الكنيسة في قضية الانتحار
أكد القمص موسي ابراهيم، المتحدث بأسم الكنيسة القبطية الارثوذكسية، أن المسيحية تُحرِّم الانتحار بشكل قاطع، وتعتبر قتل النفس جريمة جسيمة ضد وصايا الله وتعاليم الكتاب المقدس ، موضحا أن الحُجّة الدينية تقوم على أساس وصية “لا تقتل”، الواردة في إنجيل متى (الإصحاح 19: 18)، بالإضافة إلى أن الحياة تُعد هبة إلهية منحها الله للإنسان، ولا يملك أي إنسان الحق في رفضها أو إنهائها بيده.
الانتحار خطيئة جسيمة
وأضاف القمص موسي ، أن الانتحار فعل يتعارض مع نواميس الكون التي وضعها الله لتنظيم الحياة، وهذا يمثل تعديًا على خطة الله للعالم أجمع؛ وعلى هذا الأساس، فإن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية لا تُقيم صلوات الجنازة على المنتحرين، لأنه رحل عن الحياة وهو في حالة من الخطيئة الجسيمة دون توبة، حيث يُعد قتل النفس من الجرائم التي تستوجب التوبة قبل الوفاة، مشيرا إلى أن الكنيسة عبر تاريخها كانت تتعامل بصرامة مع هذه القضية، حيث كان المنتحرون يُحرمون كنسيًا، وتُحجب عنهم الصلوات الطقسية.
فتح باب الحوار الجاد
وأكد إبراهيم أن مثل هذه الحوادث المؤلمة ينبغي أن تُعيد فتح باب الحوار الجاد حول الضغوط النفسية التي يتعرض لها البعض، وأهمية تقديم الدعم الروحي والإنساني لكل من يعاني من أزمات قد تدفعه للتفكير في إنهاء حياته.