إيلي كوهين.. الجاسوس الذي خدع دمشق وأسقطته القاهرة

أعلن مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، اليوم الأحد، عن نجاح عملية نقل الأرشيف الرسمي السوري المتعلق بالجاسوس إيلي كوهين إلى إسرائيل.
وأوضح المكتب، في بيان صادر بالنيابة عن جهاز الاستخبارات الإسرائيلي “الموساد”، أن العملية جرت بشكل سري ومعقد، وبالتعاون مع جهاز استخباراتي استراتيجي شريك.وجاء هذا الإعلان تزامناً مع الذكرى الستين لإعدام كوهين، الذي نُفذ في 18 مايو عام 1965.
من هو إيلي كوهين؟
وُلد إيلي كوهين في 26 ديسمبر 1924 بمدينة الإسكندرية، إحدى أكبر المدن المصرية التي كانت تضم جالية يهودية نشطة في تلك الفترة. تعود أصول عائلته إلى مدينة حلب السورية، وكانت عائلته مندمجة في المجتمع المصري، حيث تلقى تعليمه في مدارس دينية يهودية، ثم التحق بجامعة القاهرة لفترة قصيرة، قبل أن يتجه إلى دراسة الهندسة الإلكترونية. منذ شبابه، أبدى كوهين اهتمامًا بالأنشطة الصهيونية السرية، خاصة بعد تأسيس دولة إسرائيل عام 1948، وهو ما جعله تحت رقابة السلطات المصرية.
في أوائل الخمسينيات، أصبح كوهين عضوًا في إحدى الخلايا الصهيونية السرية التي كانت تعمل داخل مصر لجمع معلومات عن الأنشطة العسكرية والاقتصادية، وتم اعتقاله لفترة قصيرة لكنه لم يُدان رسميًا. بعد أزمة السويس عام 1956، وموجة التهجير التي تعرض لها اليهود في مصر، هاجر كوهين إلى إسرائيل، حيث غيّر هويته الحياتية بالكامل وانخرط في السلك الأمني. التحق بوحدة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، وهناك لفت أنظار “الموساد” الذي كان يبحث عن عملاء ميدانيين بقدرات استثنائية في التمويه والاندماج الاجتماعي، خصوصًا في سوريا، الدولة العدوة الأكثر توترًا في تلك المرحلة.
مهمة إيلي كوهين في سوريا
أعد “الموساد” لكوهين غطاءً استخباراتيًا بالغ الدقة، حيث تم تدريبه على أساليب التخفي والاتصال اللاسلكي، وتعلم اللهجة السورية، بل قضى فترة في الأرجنتين ليُرسّخ هويته الجديدة كرجل أعمال عربي يدعى “كامل أمين ثابت” هاجر من سوريا واستقر في أمريكا الجنوبية، ثم قرر العودة إلى بلده الأصلي للاستثمار. كانت الخطة أن يدخل كوهين المجتمع السوري من باب الاقتصاد، ويصعد تدريجيًا إلى دوائر النفوذ السياسي والعسكري.
وصل كوهين إلى دمشق عام 1961، واستأجر شقة في أحد الأحياء الراقية، وبدأ يظهر بمظهر رجل ثري ومثقف، كريم، سخيّ في إقامة الحفلات والعزائم. سرعان ما كوّن علاقات وثيقة مع ضباط كبار في الجيش السوري، ونواب، ووزراء، بل وحتى بعض العاملين في القصر الجمهوري. وكان يستضيفهم في منزله الذي أصبح مركزًا للنقاشات السياسية والمشاورات الأمنية.
خلال أربع سنوات، أصبح كوهين شخصية مألوفة في أوساط الحكم، وتم ترشيحه أكثر من مرة لمنصب رسمي، أبرزها منصب نائب وزير الدفاع. كان يُرسل المعلومات إلى إسرائيل عبر جهاز إرسال مخفي في بيته، وكان يرسل تقارير أسبوعية تشمل خرائط لمواقع عسكرية، وقوائم بالتحركات العسكرية، وحتى تفاصيل عن تحصينات الجبهة السورية في هضبة الجولان. ومن بين المعلومات التي أرسلها، وصف دقيق للمنشآت العسكرية في القنيطرة، ومواقع المدفعية السورية، ومخازن السلاح، وهي معلومات ثبت لاحقًا أنها حسمت موازين المعركة خلال حرب يونيو 1967.
كيف تم كشف إيلي كوهين؟ دور المخابرات المصرية
لطالما نُسب كشف كوهين إلى المخابرات السورية وحدها، لكن الوثائق والتحليلات التي ظهرت لاحقًا كشفت عن دور حاسم لعبته المخابرات العامة المصرية في إسقاطه. ففي إطار التنسيق الاستخباراتي بين الدول العربية بعد فشل وحدة مصر وسوريا، كانت المخابرات المصرية تتابع النشاط الإسرائيلي في المنطقة عن كثب، وخاصة عمليات التجسس التي كانت تتغلغل في دول مثل لبنان وسوريا.
كشفت أجهزة الرصد المصرية عن وجود إشارات لاسلكية مشفرة يتم بثها من دمشق في ساعات متكررة وبنمط ثابت، ما أثار الشكوك حول وجود جاسوس داخل العاصمة السورية. أبلغت المخابرات المصرية نظيرتها السورية بوجود نشاط غير عادي، وطلبت التركيز على حي معين كان يُشتبه أن الإشارة تنبعث منه.
بتنسيق أمني وعبر الاستعانة بتقنية روسية متقدمة في تتبع الموجات اللاسلكية، تم تحديد مصدر الإرسال في شقة إيلي كوهين. في فجر أحد أيام يناير 1965، داهمت قوة أمنية سورية الشقة لتجد كوهين متلبسًا وهو يُرسل رسالة إلى تل أبيب. وُجهت له تهم التجسس والتخابر مع العدو، وتم التحقيق معه في ظروف مشددة، وتأكد للسلطات أنه عميل للموساد الإسرائيلي، وأنه كان ينقل معلومات حساسة في غاية الخطورة.
محاكمته وإعدامه
خضع إيلي كوهين لمحاكمة عسكرية مغلقة استمرت عدة أشهر، وظهر خلالها وعي النظام السوري بخطورة الاختراق الذي حدث. ورغم محاولات إسرائيلية مستميتة للتدخل – دبلوماسيًا عبر أطراف دولية، وإنسانيًا عبر الصليب الأحمر – فإن القرار السوري كان حازمًا. في 18 مايو 1965، نُفذ فيه حكم الإعدام شنقًا في ساحة المرجة بدمشق، في مشهد علني حضره آلاف المواطنين السوريين، وبُث عبر الإذاعة الرسمية، في رسالة واضحة بأن سوريا لن تتسامح مع من يخترق أمنها.
أثر عمليته على الصراع العربي الإسرائيلي
تُعدّ عملية كوهين واحدة من أنجح عمليات التجسس في القرن العشرين، وأكثرها تأثيرًا على مجريات الصراع العربي الإسرائيلي. فالمعلومات التي جمعها عن تحصينات الجولان، والمواقع العسكرية السورية، مكّنت إسرائيل من تحقيق اختراق سريع ومفاجئ خلال حرب 1967، حيث سيطرت على هضبة الجولان في غضون يومين فقط، دون مقاومة تُذكر.
في إسرائيل، يُعامل كوهين كبطل قومي، وأسطورة استخباراتية، ونُشرت عنه كتب وأفلام وثائقية وسينمائية، وتمت تسمية شوارع ومؤسسات باسمه. أما في العالم العربي، فاسمه يُذكر دائمًا كمثال على مدى خطورة الحرب الاستخباراتية، وكدليل على الاختراقات التي نجح فيها “الموساد” في تلك الفترة، وعلى اليقظة التي أظهرتها المخابرات المصرية في التعامل مع هذا الملف.
أرشيف إيلي كوهين الذي حصل عليه “الموساد”
في مايو 2025، وفي خطوة وصفها الإعلام العبري بأنها “اختراق تاريخي”، أعلن مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو اليوم الأحد عن نجاح “الموساد” في الحصول على الأرشيف السوري الكامل الخاص بالجاسوس إيلي كوهين، وذلك في عملية وُصفت بأنها معقدة وسرية، تمت بالتعاون مع جهاز استخبارات استراتيجي شريك لم يُعلن عنه.
شمل الأرشيف نحو 2500 مستند وصورة، بالإضافة إلى مقتنيات وأغراض شخصية أصلية، معظمها يُكشف لأول مرة. واحتوى الأرشيف على تسجيلات صوتية، وملفات التحقيقات التي خضع لها كوهين، ورسائل كتبها بخط يده إلى عائلته في إسرائيل، وصور من أنشطته داخل سوريا، بالإضافة إلى مفاتيح شقته بدمشق، وجوازات سفر مزورة استخدمها في تنقلاته، وصور تجمعه بكبار المسؤولين في الدولة السورية آنذاك.
الأخطر في هذا الأرشيف هو ما احتوته مذكراته من تكليفات سرية من الموساد، وتفاصيل عمليات جمع المعلومات، وأسماء بعض المتعاونين. كما ضم الحكم القضائي الأصلي الصادر بحقه، والذي طالبت إسرائيل لعقود طويلة بالحصول عليه ضمن مطالبها بالكشف عن مصيره النهائي.
قال رئيس الموساد، دادي برنيع، إن جلب هذا الأرشيف يمثل مرحلة جديدة في “رحلتنا لاكتشاف مكان دفن كوهين”، مؤكدًا أن المؤسسة الاستخباراتية ستواصل البحث عن رفات الجواسيس المفقودين لاستعادتهم، سواء أحياء لإعادة تأهيلهم أو أموات لدفنهم في “أرض الوطن”. أما نتنياهو، فوصف إيلي كوهين بأنه “أعظم جاسوس في تاريخ الدولة”، وأنه ساهم في “النصر التاريخي في حرب الأيام الستة”.
وتكشف قصة إيلي كوهين عن أوجه معقدة من الصراع العربي الإسرائيلي، لا تقتصر على ميادين الحرب، بل تمتد إلى دهاليز المخابرات وحروب المعلومات. وعلى الرغم من مرور 60 عامًا على إعدامه، فإن ذكراه لا تزال حيّة في العقل السياسي والأمني الإسرائيلي، كما أن كشف أرشيفه يعكس استمرار معركة السيطرة على الذاكرة والمعلومة. أما في الجانب العربي، فتظل قصته تذكيرًا دائمًا بأهمية التنسيق الاستخباراتي، واليقظة، والحذر من اختراقات تُغيّر مسارات الحروب.
ولعل أهم درس تُبرزه قصة كوهين هو أن حروب الجواسيس لا تنتهي بانتهاء الشخص، بل تستمر آثارها لعقود، ويظل البحث عن الحقيقة والعدالة والاستخلاص الاستراتيجي مستمرًا، جيلاً بعد جيل.