تقارير-و-تحقيقات

أضحية العيد بين القدرة والنية: فتوى شرعية تحسم الجدل

 

كتب: مصطفى على

مع اقتراب عيد الأضحى، تكثر التساؤلات لدى المسلمين حول شعيرة الأضحية: من هو القادر عليها؟ وهل يجوز الاقتراض لأدائها؟ وهل يترتب إثم على من امتنع عنها رغم الاستطاعة؟ تلك الأسئلة لا تتعلق بجوانب فقهية فحسب، بل تمتد إلى أبعاد اجتماعية واقتصادية تتجدد سنويًا، في محاولة للفهم والامتثال لسنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، واقتفاء أثر نبي الله إبراهيم عليه السلام، الذي ارتبطت الأضحية بهدي قصته الخالدة في القرآن الكريم.

من هو المقتدر شرعًا على أداء الأضحية؟

تحدد دار الإفتاء المصرية أن القادر على الأضحية هو من يملك ثمنها، على أن يكون هذا المال زائدًا عن حاجته وحاجة من يعول من أسرته، خلال يوم العيد وأيام التشريق الثلاثة، وهي الأيام المحددة شرعًا لذبح الأضاحي. هذا التعريف يجعل من الأضحية سنة مشروطة بالاستطاعة الفعلية، وليس بالقدرة النظرية أو المجردة.

وقد استندت الإفتاء في بيانها إلى ما قرره فقهاء المذاهب. يقول الإمام النووي في كتابه “المجموع”: “هي سنة مؤكدة في حق الموسر، ولا تجب عليه”. وأكد الخطيب الشربيني في “مغني المحتاج” على ضرورة أن يكون مال الأضحية فاضلًا عن الحاجة الأساسية، معتبرًا الأضحية نوعًا من الصدقة، وبالتالي فإنها تخضع لنفس شرط الزيادة عن الحاجة، مشيرًا إلى أن الأفضل أن يكون الفائض كافيًا لأيام العيد لا ليوم واحد فقط.

هل الاقتراض جائز لتحقيق سنة الأضحية؟

رغم أن الفقهاء لم يشترطوا الاقتراض في هذه المسألة، إلا أن هناك من يرى في الاستدانة نوعًا من التساهل غير المحمود، خاصة أن الأضحية سنة مؤكدة وليست فرضًا، وبالتالي لا يجب على المسلم أن يتحمّل أعباءً مالية أو يدخل في دائرة الدين لأجل تحقيقها فالاستدانة مستحبة فقط إذا كان المسلم واثقًا من سدادها دون عناء، وكانت رغبته في تحصيل ثواب الشعيرة تفوق حسابات الحرج المالي المؤجل.

هل يأثم من ترك الأضحية مع القدرة؟

في واحدة من أكثر الأسئلة إثارة للجدل، أوضح الدكتور علي جمعة، مفتي الجمهورية السابق، أن من ترك الأضحية رغم قدرته لا يأثم، لكنه “أضاع على نفسه خيرًا عظيمًا” وشبّه ذلك بمن يؤدي الفروض ويترك السنن، مستشهدًا بحديث أعرابي جاء إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم يسأله عن أركان الإسلام، فقال له: “لا إلا أن تطوّع”، فأجاب الأعرابي: “والله لا أزيد على هذا ولا أنقص”، فقال عليه السلام: “أفلح إن صدق”.

وأشار جمعة إلى أن السنن والنوافل تسهم في “ستر النقص الحاصل في أداء الفروض”، لافتًا إلى أن بعض الصالحين كان يقول: “جبر الكسر يشفي الأمراض التي لا علاج لها”، في إشارة إلى أهمية الأعمال المستحبة في تكميل ما نقص من الفريضة.

أحكام التوكيل ومخالفته في الأضحية: حدود لا يجب تجاوزها

كثير من الناس يوكلون غيرهم في شراء وذبح الأضاحي، سواء في الداخل أو الخارج، إلا أن السؤال الذي يفرض نفسه هو: هل يجوز للوكيل أن يغيّر نوع الأضحية التي طلبها الموكل؟

أجابت دار الإفتاء المصرية بوضوح: لا يجوز للوكيل مخالفة نوع الأضحية المحددة من قِبل الموكل، فإذا طلب منه ذبح شاة فلا يجوز له ذبح جزء من بقرة (سبع بقرة) بدلًا منها، إلا بإذن صريح من الموكل أما في حال لم يتم تحديد نوع الأضحية، فيجوز للوكيل اختيار الأصلح للفقراء.

الإنابة في الذبح: اتفاق فقهاء المذاهب الأربعة

لم تختلف المذاهب الأربعة في مسألة الإنابة في ذبح الأضحية، حيث أجازوها جميعًا استنادًا إلى فعل النبي صلى الله عليه وسلم. في الحديث الذي رواه مسلم، نحر النبي 63 أضحية بيده الشريفة، ثم أعطى سيدنا علي بن أبي طالب فنحر ما تبقى.

قال الإمام ابن عبد البر المالكي إن الأمر “لا خلاف بين العلماء في جوازه”، مما يجعل الإنابة سواء داخل البلاد أو خارجها، جائزة ومشروعة متى ما توفرت النية السليمة والضوابط الشرعية.

مخالفة نوع الأضحية: رؤية فقهية تفصيلية

الخلاف الفقهي يبدأ حين يحدد الموكل نوعًا معينًا من الأضحية ثم يقوم الوكيل بتغييره. يرى الحنفية والشافعية أن الوكيل إذا خالف فإنه يتحمّل المسؤولية، ولا يلزم الموكل بما تم دون إذنه بينما يرى المالكية والحنابلة في رواية أخرى، أن التصرف يتوقف على قبول الموكل، فإن أجاز التصرف نفذ، وإن رفض بطل.

ينقل الإمام الكاساني في “بدائع الصنائع” أن الوكالة إذا كانت مقيدة، فيجب الالتزام بها، وإلا فهو شراء باطل، بينما يذهب النووي في “روضة الطالبين” إلى بطلان البيع أو الشراء إذا خالف الموكل وأجرى التصرف بعين ماله. وأكد ابن قدامة في “المغني” أنه إذا باع أو اشترى بغير إذن، فذلك موقوف على إجازة المالك.

الرأي المختار للفتوى: الالتزام أصل شرعي

في ضوء تلك الآراء، اختارت دار الإفتاء المصرية الفتوى التي تقضي بضرورة التزام الوكيل بنوع الأضحية التي وكل بها، وعدم التصرف من تلقاء نفسه فإذا خالف، فإن تصرفه لا يُعتد به إلا إذا أجازه الموكل والسبب في ذلك أن تحديد نوع الأضحية يحمل في طياته مقصداً شرعيًا لا يجوز إهماله.

الأضحية عبادة موسمية بأبعاد روحية واجتماعية

إن الأضحية ليست مجرد طقس موسمي، بل عبادة متكاملة الأبعاد: روحية واقتصادية واجتماعية. فهي تقرب إلى الله، ومشاركة للفقراء، وتذكير بإخلاص إبراهيم، وسنة عن رسول الرحمة ومع ذلك، فإن أداءها مرتبط بالقدرة، ولا يجوز للمسلم أن يتحمل ما لا يطيق لأجلها، بل يكفي أن ينوي الخير، ويترك ما لا يستطيعه دون تأثيم، مؤمنًا بأن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights