رسائل من نفق الأقصى.. نتنياهو بين تكريس الرواية الصهيونية وهروب إلى الأمام

تحت الأرض، في مشهد مسرحي مشبع بالدلالات، ظهر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وهو يتجول في نفق حجري أسفل المسجد الأقصى، في مشهد لم يكن عابرًا أو عفويًا.
هذا الفيديو، الذي بثته وسائل الإعلام الإسرائيلية، تعيد إلى الأذهان مشروعًا أيديولوجيًا طويل الأمد يسعى إلى تكريس الرواية الصهيونية حول “الهيكل المزعوم”، وفي الوقت نفسه تعكس هروبًا إلى الأمام من أزمات سياسية وأمنية تعصف بالحكومة الإسرائيلية.
في لحظة مأزومة داخليًا وخارجيًا، اختار نتنياهو أن يبعث برسائل تتجاوز الأبعاد الدينية والتاريخية إلى حسابات سياسية بحتة، مما جعل صورته في النفق تثير جدلاً واسعاً حول أبعاد هذه الخطوة وتوقيتها.
ويسعى موقع “اليوم” لتحليل مقطع الفيديو الذي يصل مدته لخمسة دقائق، والذي لم يكن مجرد لحظة سياسية، بل تعبير عن صراع طويل على الذاكرة والمقدسات.
#نتنياهو صور المقطع الذي قال فيه إنه “سيزف بشرى بشأن الأسرى الإسرائيليين اليوم أو غدًا” من داخل نفقٍ أسفل #المسجد_الأقصى، ضمن الحفريات المتواصلة التي يجريها الاحتلال#رادار_نيوز #مرآة_الخبر pic.twitter.com/CTZpBgjblp
— رادار نيوز (@Radaar__news) May 27, 2025
لحظة مسيحانية
الدكتور كمال حبيب، الباحث الأكاديمي المتخصص في الفكر السياسي وعلم الاجتماع الديني، وصف ظهور نتنياهو داخل النفق بأنه “لحظة مسيانية”- يعتقد اليهود أن المسيح سيأتي ليخلص الشعب الإسرائيلي من الاضطهاد ويؤسس مملكة يهودية- بتعبير إيتمار بن غفير، وزير الأمن القومي الإسرائيلي المتطرف، الذي يرى أن هذا المشهد يرمز إلى “توحيد القدس” والسيطرة على المسجد الأقصى بزعم وجود هيكلهم المزعوم تحته.
وفي تصريحات خاصة لموقع “اليوم”، قال حبيب: “هذا المشهد يعكس الأزمة الضخمة التي يواجهها نتنياهو، سواء على مستوى الحرب في غزة أو عجزه عن تحقيق النصر الذي وعد به، أو إخفاقه في إعادة المختطفين، أو حتى السيطرة على القطاع أو تنفيذ مخطط التهجير القسري”.
تعويض الفشل السياسي
ويرى حبيب أن “نتنياهو خلال الفترة الماضية لم يعد يخرج إلى مؤتمرات صحفية عامة كما كان مفترضاً، بل يعتمد بشكل أساسي على فيديوهات قصيرة يقدمها عبر مكتبه أو ديوانه، وهذا تعبير واضح عن تدهور وضعه السياسي وضعف قدرته على مواجهة أسئلة الصحافة المتنوعة والصعبة”.
مضيفًا أن:”هذا الأسلوب يعكس أزمة عميقة في القيادة والشرعية، حيث يحاول نتنياهو التواصل فقط مع قاعدة المتطرفين الصهاينة والدينيين، معتبراً أن المؤتمرات الصحفية الحقيقية التي تحتوي على نقاشات وأسئلة قد تكشف عن هشاشة موقفه أصبحت عبئاً عليه.”
ويتابع حبيب أن نتنياهو، الذي يمثل اليمين القومي المتطرف واليمين الديني الصهيوني، لجأ إلى هذه الخطوة لتعويض فشله السياسي ومغازلة مشاعر الحريديم والصهاينة المتطرفين.
وأشار إلى أن أكثر من 1500 مستوطن اقتحموا الأقصى مؤخراً، ورفعوا الأعلام الإسرائيلية، واعتدوا على المصلين والصحفيين، في مشهد وصفه معارضو نتنياهو داخل إسرائيل بأنه “عار على الكيان”.
وأضاف حبيب: “نتنياهو مضطر للبقاء في السلطة، فيغازل المتطرفين دينياً عبر التحول من السياسات العامة التي فشل فيها – سواء الحرب، أو الاقتصاد، أو القانون – إلى سياسات الهوية والدين، في محاولة لتأمين دعم قاعدته المتطرفة”.
نفق الأقصى.. سردية متهاوية بلا دليل
أوضح حبيب أن الحفريات الإسرائيلية أسفل المسجد الأقصى لم تفضِ إلى أي دليل يدعم مزاعمهم بوجود الهيكل المزعوم. وقال: “لم يجدوا سوى بعض الأحجار والبلاط، ولا يوجد أي أثر لدولة يهودية تاريخية، ما يفضح زيف السردية الصهيونية المؤسسة”.
وأضاف: “هذا النفق الذي ظهر فيه نتنياهو لا يعكس إلا التهديد الذي تمثله العقلية الصهيونية المتطرفة للمسجد الأقصى”.
الأقصى مهدد..
حذر حبيب من أن المسجد الأقصى يواجه تهديداً غير مسبوق، قائلاً: “المسجد الأقصى في خطر.. وهو يستغيث، وحرمته كحرمة المسجد الحرام سواء بسواء”.
وأضاف: “هذا المشهد يعكس لحظة ضعف النظام العربي الذي يتسم بالتفكك، ما يمنح نتنياهو والمستوطنين المتطرفين جرأة غير مسبوقة للتصعيد، سواء عبر محاولات التقسيم الزماني والمكاني أو منع الصلاة ورفع الأعلام الإسرائيلية داخل الأقصى”.
وأكد: “نحن أمام محاولة لتغيير الوضع القانوني والتاريخي للأقصى، وهذا يتطلب موقفاً عربياً وإسلامياً موحداً، ودعماً للمرابطين والمرابطات الذين يدافعون بأجسادهم العارية عن المسجد”.
توظيف الأسطورة لتغطية الإخفاقات
قال حبيب: “السياسة والدين في الكيان الصهيوني توظيف كامل للأساطير التوراتية والتطرف الديني لتبرير الوجود والدموية”. وأشار إلى أن الحملة العسكرية على غزة مثالعلى ذلك، حيث أُطلق عليها اسم “مركبات جدعون”، وهي شخصية توراتية ذات طابع أسطوري، قائلاً: “هذه محاولة للهروب من أسئلة الواقع إلى عوالم الأسطورة، فحين يعجز نتنياهو عن تقديم إجابات عملية على إخفاقاته، يلجأ إلى توظيف التاريخ والرموز الدينية لإضفاء شرعية زائفة”.
وأضاف: “ما يحدث اليوم يؤكد أن المشروع الصهيوني برمته يقوم على استغلال الدين كأساس للصراع، ويمثل نتنياهو ذروة هذا الاستخدام البشع الذي يهدد السلم الإقليمي والعالمي”.
سردية فلسطينية صامدة
أوضح حبيب أن إسرائيل تعاني عزلة دولية غير مسبوقة، قائلاً: “حتى حلفاء إسرائيل التقليديون من الأوروبيين وترامب نفسه لم يعودوا قادرين على تبرير جرائمها”.
وأشار إلى أن الحملة العسكرية التي مضى عليها نحو 600 يوم أسفرت عن مشاهد إجرامية ضد المستشفيات والأطفال والنساء، “ما جعل العالم كله يرى الحقيقة، من الطلبة في هارفرد وكولومبيا إلى السياسيين في إيرلندا وإسبانيا والسويد”.
وأضاف: “السردية الفلسطينية اليوم هي سردية شاهدة ومشهودة وشهيدة.. تقدم تضحيات عظيمة وتلهم العالم بصمودها، مقابل سردية إسرائيلية متهاوية قائمة على العنف والتطرف والدموية”.
أزمة وجودية وخطر داخلي
اعتبر حبيب أن نتنياهو يواجه أزمة وجودية حقيقية، قائلاً: “هناك مؤرخون إسرائيليون يتحدثون عن نهاية الكيان الصهيوني، ونتنياهو نفسه تحدث عن أزمة وجودية بعد 7 أكتوبر”.
وأضاف أن “تصاعد قوة الحريديم والمتطرفين الذين كانوا يشكلون نصف بالمئة من المجتمع الإسرائيلي ووصلوا اليوم إلى 14-15% يعمّق من أزمة إسرائيل الداخلية ويدفعها نحو الجنون واللاعقلانية”.
وأكد: “هذا التصعيد الديني والتطرف ليس سوى محاولة يائسة لصرف الأنظار عن الانقسامات الداخلية والفشل العسكري والسياسي، لكنه في النهاية يدفع إسرائيل نحو طريق مسدود”.
الأقصى ليس قضية فلسطينية فقط
اختتم حبيب حديثه قائلاً: “المسجد الأقصى ليس قضية الفلسطينيين وحدهم، بل هو قضية العرب والمسلمين جميعاً”.
واستشهد بآية من القرآن الكريم (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ)، مؤكداً أن هذه القضية تمثل اختباراً حقيقياً لوعي الأمة وقدرتها على حماية مقدساتها.
وأضاف: “لن يغفر التاريخ، ولن تغفر الشعوب العربية والإسلامية، هذا الصمت المريب تجاه انتهاك حرمة المسجد الأقصى. إننا بحاجة إلى موقف حازم ومشترك يعيد لهذه الأمة هيبتها وكرامتها”.