تقارير-و-تحقيقات

دعاء سورة الحشر: كنز من كنوز النور الرباني

 

تقرير: مصطفى على

في فضاء القرآن الكريم، تتلألأ آيات سورة الحشر كنجوم مضيئة في ليلٍ روحي عميق، يبحر فيه القلب في معاني العزة الإلهية والقدرة المطلقة، وتستحضر الأرواح في تردادها تلاوةً ودعاءً أسماء الله الحسنى التي تجلّت في ختام هذه السورة.
أنها سورة الحشر، التي حملت في طياتها بيانًا لأقدار الله في شؤون خلقه، ونفحات من صفاته العليا، لتُختتم بما صار لاحقًا دعاءً يُلهج به ليل نهار، رجاءً وتعبدًا وتذللاً بين يديه سبحانه.

في هذا التحقيق الموسع، نغوص في أعماق هذا الدعاء المستخرج من خواتيم سورة الحشر، نستعرض ألفاظه، ونكشف أبعاده الشرعية والروحية، ونقف على فضله كما ورد في الروايات والأحاديث، لنقدّمه في صورةٍ تُشبع قلب الباحث عن النور، وتمنح الداعين به مفاتيح تدبر وخشوع.

كيف تحوّلت آيات إلى دعاء؟

لم تأت خواتيم سورة الحشر كبقية السور، بل جاءت تمجيدًا إلهيًا نقيًا، يبدأ من الآية الثانية والعشرين حتى ختام السورة، حيث تتجلّى أسماء الله الحسنى في سياق مهيب يليق بعظمته وقد درج المسلمون، مستندين إلى أحاديث وآثار نبوية، على ترديد هذه الآيات والدعاء بها، لما فيها من تعظيم لله وتمجيد، مما يجعلها من أعظم ما يُدعى به، وأرجى ما يُستفتح به الدعاء، وخاصة عند ختم المجالس أو التهيؤ للقيام.

وقد قال الإمام القرطبي في تفسيره: “خواتيم سورة الحشر أعظم ما يُدعى الله به، فيها سبعة عشر اسماً من أسمائه الحسنى، من دعا بها، فقد عظّم الله تعظيمًا لا يُضاهيه تعظيم”.

نص الدعاء كما ورد في الروايات

نص الدعاء الذي يُستخرج من خواتيم السورة، يبدأ بعد قوله تعالى: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ﴾، ويستمر مع سرد الأسماء الحسنى:

“هو الله الذي لا إله إلا هو، عالم الغيب والشهادة، هو الرحمن الرحيم،
هو الله الذي لا إله إلا هو، الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر،
سبحان الله عما يشركون،
هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى،
يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم.”

وفي بعض الصيغ الدعائية، يُضاف إليها دعاء طويل يناجي فيه العبد ربَّه بهذه الأسماء، فيقول مثلًا:

“اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن،
اللهم يا خالق يا بارئ يا مصوّر، يا ذا الجلال والإكرام، يا من له الأسماء الحسنى،
نسألك بكل اسم سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك،
أن تغفر لنا وترحمنا، وتشرح صدورنا، وتيسر أمورنا، وتكتبنا من عبادك الصالحين…”

المعاني الشرعية والروحية لأسماء الله في الدعاء

“الملك القدوس السلام”

تأتي هذه الأسماء لتصف جانبًا من صفات الكمال الإلهي المطلق:

الملك: مالك الملك، له الأمر كله في الدنيا والآخرة، لا يُعجزه شيء، ولا يخرج شيء من تدبيره.

القدوس: المنزّه عن كل نقص، الطاهر في ذاته وصفاته وأفعاله، فلا يُدرَك ولا يُشبَّه.

السلام: الذي سلمت ذاته من كل عيب، وسلم خلقه من ظلمه، فهو الأمان لمن احتمى به.

“المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر”

فيها تتجلى القوة الإلهية والسيطرة المطلقة، وهي ما ترعب الشياطين وتطمئن قلوب المؤمنين:

المؤمن: الذي يصدق وعده لعباده، ويمنحهم الأمان في ظلّه يوم لا ظل إلا ظله.

المهيمن: الرقيب على كل شيء، المسيطر عليه، العليم بتفاصيل الخلق دقيقها وجليلها.

العزيز: القوي الذي لا يُغلب، الذي لا يُنال مقامه.

الجبار: الذي يجبر المنكسرين، ويقهر الجبابرة.

المتكبر: المتعالي عن مشابهة خلقه، له الكبرياء وحده لا شريك له فيها.

فضل هذا الدعاء في الروايات والأحاديث

ورد عن النبي ﷺ أنه قال:
“من قال حين يصبح ثلاث مرات: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، ثم قرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر، وكّل الله به سبعين ألف ملك يصلّون عليه حتى يمسي، وإن مات في ذلك اليوم، مات شهيدًا”
(رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب).

وفي رواية:
“ومن قرأها حين يمسي، كان له مثل ذلك حتى يصبح.”

ومن هنا نفهم أن الدعاء بهذه الآيات، خاصة في الصباح والمساء، لا يقتصر على الدعاء المجرد، بل هو عبادة كاملة تشمل الذكر، والاستحضار، والتسليم لله، ما يجعلها من أعظم الأوراد اليومية.

علاقة الدعاء بسورة الحشر وموضوعاتها

سورة الحشر نفسها تدور حول عظمة الله في تدبيره، وتفصيله لوقائع إجلاء بني النضير، وكيف أن الله هو المالك المدبر لكل شؤون الخلق، وأنه لا يعزب عنه شيء. فجاءت الخاتمة بتمجيد اسمه، وكأنها تصوغ استنتاجًا نهائيًا: “إن كنتَ قد تأملت وقائع السورة، فإن نتيجة كل ذلك أن الله هو الملك القدوس العزيز…”.

إن الدعاء بخواتيم السورة هو امتداد لموضوعها، ووسيلة لتفعيل أثرها في حياة المسلم اليومية.

أبعاد روحية: ماذا يحدث حين يلهج القلب بهذه الآيات؟

توحيد صادق: حين يقول العبد “هو الله الذي لا إله إلا هو”، فهو يجدد بيعته مع ربه، ويعلن توحيده له في السر والعلن.

طمأنينة داخلية: استحضار أسماء مثل “السلام، المؤمن، المهيمن” يملأ القلب بالسكينة، في زمن تعصف به الفتن والاضطرابات.

ذكر “الجبار، المتكبر” يردع النفس عن الغرور، ويبعث الخوف المحمود في القلب.

طلب الشفاء والانكسار: اسم “الجبار” له وقع خاص على القلوب المنكسرة، فيجبرها بلطفه، ويعيد ترميمها.

متى يُستحب الدعاء بهذه الآيات؟

عند الصباح والمساء، كما ورد في الحديث النبوي.

في قنوت الوتر، لاستحضار معاني التمجيد.

عند الحاجة الشديدة، لأن فيها تعظيمًا لله، وما عُظم الله بشيء أعظم من أسمائه.

عند المرض أو المصيبة، حيث اسم “الجبار” و”المؤمن” و”السلام” يُطمئن القلب.

دعاء جامع مستخرج من الآيات

“اللهم يا من له الأسماء الحسنى، يا ملك يا قدوس، يا سلام يا مؤمن يا مهيمن،
يا عزيز يا جبار يا متكبر، نسألك أن تُنزل علينا من سَلامك،
وأن تُؤمن قلوبنا، وتُهيمن على نفوسنا،
وأن تُعزنا بطاعتك، وتجبر كسرنا، وتُكبر نفوسنا بك لا بأنفسنا.
اللهم خلّقنا بصفات عبادك الصالحين،
كما خلقتنا في أحسن صورة،
إنك الخالق البارئ المصور، العزيز الحكيم.”

نفحات من نور الله بين الأسماء

إن الدعاء بخواتيم سورة الحشر ليس مجرد ترديد لألفاظ، بل هو دخول في حضرة الأسماء الإلهية، وسجود قلبي في محراب العظمة الربانية من أراد أن يمسّ قلبه شيء من نور السماء، فليُكثر من ترداد هذا الدعاء، ولينقش أسماء الله في روحه، فإنها مفاتيح الهداية، وأسرار الطمأنينة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights