ما بعد الحج.. تسعة مفاتيح لحياة روحانية مستمرة

تقرير:مصطفى على
مع انتهاء مناسك الحج وعودة الحجيج إلى أوطانهم، يظن كثيرون أن الرحلة الإيمانية قد طويت صفحاتها غير أن أهل العلم، وفي مقدمتهم علماء الأزهر الشريف ودار الإفتاء المصرية، يؤكدون أن الحج لا يمثل نهاية لموسم الطاعة، بل هو بداية لتحول روحي عميق في حياة المسلم، يجب أن يستمر ويتجذر. فما هي الأعمال التي ينبغي أن يلتزم بها الحاج بعد عودته؟ وكيف يمكن أن يحافظ على روحانية الحج في أيامه التالية؟ هذا ما يكشفه التقرير التالي.
الحج… الركن الأعظم بين أركان الإسلام الخمسة
أوضحت لجنة الفتوى التابعة لمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف أن الحج ركن من أركان الإسلام الخمسة، فرضه الله تعالى على كل مسلم بالغ قادر مستطيع واستدلت اللجنة بحديث النبي صلى الله عليه وسلم:
«بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا».
كما استشهدت اللجنة بآية من سورة الحج تدعو المسلمين إلى أداء هذه الشعيرة العظيمة:
«وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ» (الحج: 27).
وهكذا يتضح أن الحج ليس مجرد شعيرة تؤدى في أيام معدودات، بل هو عهد يتجدد بين العبد وربه، يتطلب الوفاء به عبر سلوك طويل المدى يمتد لما بعد العودة إلى الوطن.
تسعة أعمال محورية… خريطة المسلم بعد الحج
لجنة الفتوى في الأزهر الشريف حددت تسعة أعمال مركزية يجب أن يحرص الحاج على الالتزام بها عقب عودته، وهي بمثابة “خريطة طريق” للمحافظة على صفاء النفس ونقاء القلب:
1. إخلاص النية والعمل لله تعالى
النية هي أساس كل عمل. وعلى الحاج أن يراجع دوافعه دائمًا، ويجعل هدفه في كل فعل هو رضا الله سبحانه وتعالى.
2. الاستمرار في الطاعة
من أعظم ثمار الحج تلك الروح التي تتذوق حلاوة الطاعة. ولذلك، يجب المحافظة على هذه الروح عبر الصلاة في أوقاتها، وقراءة القرآن، وصلة الرحم، وغيرها من الأعمال الصالحة.
3. التمسك بالتقوى
الحج مدرسة للتقوى، والمسلم مطالب بأن يخرج منها متشربًا بها، متجسدًا لها في أخلاقه وسلوكياته.
4. الاستقامة
قال الله تعالى: «فاستقم كما أُمرت» والاستقامة تعني الثبات على الطاعة، والابتعاد عن الانحراف في الفكر والسلوك.
5. المداومة على الشكر
من شكر الله على نعمته بالحج أن يُظهر العبد ذلك من خلال المداومة على ذكره، والاعتراف بفضله، وعدم نكران المنن.
6. الإكثار من الذكر
الذكر هو صلة دائمة بالله. وعلى الحاج أن يستمر في التسبيح، والتحميد، والتهليل، والدعاء، حتى لا ينقطع عن مناجاة ربه.
7. الدعاء
الحاج الذي تذوق لذة الوقوف بعرفة، لا ينسى الدعاء بعدها. بل يجعل منه عادة لا تفارقه في كل حين.
8. الاستغفار
لا يخلو أحد من الخطأ، والاستغفار الدائم هو طريق التوبة والتطهير المستمر للنفس.
9. عدم الانقطاع عن العمل الصالح
من علامات قبول الحج أن يخرج منه المسلم أكثر حرصًا على الخير، وأكثر نشاطًا في أعمال البر.
دار الإفتاء: سارع بالرجوع إلى أهلك بعد أداء النسك
وفي بيان آخر لدار الإفتاء المصرية، تم التأكيد على أن من السنة تعجيل الحاج بالعودة إلى أهله بعد الفراغ من المناسك وزيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد جاء في الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«إِذَا قَضَى أَحَدُكُمْ حَجَّهُ فَلْيُعَجِّلِ الرِّحْلَةَ إِلَى أَهْلِهِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِأَجْرِهِ» (رواه الدارقطني).
هذا الحديث يؤكد أن العودة السريعة إلى الأهل، خاصة بعد التزود بالخير والبركات، هي من تمام الأجر والثواب، وهو ما يشير إلى حرص الإسلام على التوازن بين العبادة والأدوار الاجتماعية والإنسانية.
العودة إلى الطاعات وترك المعاصي… بوابة لحياة جديدة
أوضحت دار الإفتاء أن الحاج بعد عودته يجب أن يعتبر نفسه وكأنه وُلد من جديد، كما جاء في الحديث:
«مَن حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه».
وعليه، فإن أولى خطوات ما بعد الحج هي المداومة على الطاعات، التي هي المفتاح الحقيقي للثبات على الهداية، وترك المعاصي التي تؤدي إلى قسوة القلب وزوال بركة العمر وضياع لذة الطاعة.
سنة في المسجد بعد السفر
من السنن النبوية التي يغفل عنها كثير من الناس عند العودة من السفر ومنها السفر للحج أن يذهب المسلم إلى المسجد ليصلي ركعتين.
وقد ورد عن كعب رضي الله عنه:
“أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا قَدِم من سفرٍ ضُحًى دخل المسجد فصلى ركعتين قبل أن يجلس” (رواه البخاري).
هذه السنة تعكس روح الشكر لله على سلامة العودة، وهي إعلان صامت بأن أول محطة في حياة المسلم بعد أي سفر، هي بيت الله.
الحج بداية لا نهاية
العودة من الحج ليست نهاية الموسم، بل بداية موسم جديد من الالتزام والتحول الروحي. فالحج الذي لا ينعكس على سلوك صاحبه ليس بحج كامل.
ولذا، فإن الإسلام لا ينظر إلى الحج كفريضة تؤدى ثم تُنسى، بل كمحطة يُعاد فيها تشكيل روح الإنسان، وفتح صفحة جديدة مع الله.
أيها الحاج العائد من رحاب مكة لا تطوِ مشاعر الطاعة مع أمتعة السفر، بل اجعل كل يوم بعد الحج امتدادًا لذلك الموقف الجليل الذي وقفت فيه بعرفة، فالله يناديك دومًا، كما ناداك هناك.