بين الأمنيات والواقع… هل يعود الحاج كيوم ولدته أمه؟

تقرير: مصطفى على
في كل موسم من مواسم الحج، تتجه أنظار المسلمين نحو الكعبة المشرفة، ومعها تتجدد أماني الغفران والتطهير ومع توديع ضيوف الرحمن بعد أداء المناسك، تتردد على الألسنة عبارة مألوفة: “عاد الحاج كيوم ولدته أمه”، وهي مقولة نبوية مشهورة تحمل في مضمونها وعدًا بالعفو الكامل عن الذنوب، وولادة روحية جديدة.
لكن هذه العبارة، على بساطتها ووقعها الجميل في النفوس، لا تعني كما يؤكد العلماء أن كل حاج يعود بلا ذنوب بالضرورة، بل هناك شروط دقيقة ومعايير شرعية يجب أن تتحقق ليُمنح الإنسان هذا المقام العظيم.
هذا التقرير يسلط الضوء على حقيقة هذا الوعد النبوي، ويستعرض شروط تحقيقه، ويناقش ما يجب أن يداوم عليه الحاج بعد عودته من أجل الحفاظ على صفاء قلبه، واستمرار أثر رحلته إلى الله.
أولاً: التصور الخاطئ لمفهوم الحج المبرور
يرى كثير من المسلمين أن مجرد الوصول إلى مكة وأداء المناسك الأساسية كافٍ لتحقيق الحج المبرور، وأن الإنسان يُغفر له بمجرد طواف وسعي ووقوف بعرفة لكن الحقيقة كما يكشفها أهل العلم أن القبول الإلهي لا يُنال بالأفعال الظاهرة فقط، بل يرتبط بنقاء الباطن، وصلاح النية، وخلو القلب من الرياء والعداوة والظلم.
الشيخ عويضة عثمان، أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية، ألقى الضوء على هذه المسألة بقوله:
“ليعود الإنسان من حجه كما ولدته أمه، عليه أولًا أن يبرئ ذمته من حقوق العباد، فإن الله سبحانه وتعالى قد يغفر له ما بينه وبينه، لكنه لا يغفر ما بين العبد والناس إلا بردّ المظالم وطلب المسامحة.”
ويضيف:
“العبارة ليست لكل حاج، بل لمن خرج محتسبًا، مخلصًا، متجردًا من حب الظهور، ملتزمًا بآداب الرحلة، متجنبًا الرفث والفسوق والجدال، فحينها فقط تتحقق له هذه العودة النقية.”
ثانيًا: الحج المقبول لا يقتصر على المناسك فقط
يرى العلماء أن المناسك ليست سوى الجانب الظاهري للحج، بينما الجانب الأهم هو السلوك والنية والتغيير الجذري في القلب لذلك فإن من يعود من الحج وقد بقي على عاداته السيئة ولم يتغير فيه شيء، فحجه لم يكن مبرورًا وإن كان صحيحًا من الناحية الفقهية.
الشرط الأول وفق دار الإفتاء هو إبراء الذمة من حقوق العباد، أي:
رد المظالم إلى أهلها.
التوبة من الغيبة والنميمة والشتائم.
تسديد الديون والاعتذار للمجني عليهم.
وهنا يشير الشيخ عويضة عثمان إلى الفارق بين حقوق الله وحقوق العباد، موضحًا:
“حقوق الله مبنية على المسامحة، والله عز وجل يغفر ويصفح أما حقوق العباد فهي مبنية على المشاحة، أي الشدة، لأن الله لا يتدخل في التنازلات الشخصية بين الناس، فلكل إنسان حقه المحفوظ.”
ثالثًا: من هو الحاج الذي يغفر له كل شيء؟
النبي محمد ﷺ قال في الحديث الصحيح:
“من حج فلم يرفث ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه.”
هذا الحديث لا يُطلق إلا على من انضبط سلوكه أثناء الحج، فـ”الرفث” يشير إلى الكلام الفاحش، و”الفسوق” إلى المعاصي والانحرافات، و”الجدال” إلى الخصومات والمراء غير المجدي.
الرسالة واضحة:
الحج المقبول ليس حجًا صامتًا فقط، بل حج فيه تحكمٌ كامل في النفس، وضبط للسلوك، وتجرد من كل ما يشين.
رابعًا: ماذا بعد الحج؟ دليل عملي لاستمرار الطهارة الروحية
لجنة الفتوى بمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف أجابت عن سؤال “ماذا بعد الحج؟”، وأكدت أن الاستمرار في الطاعة هو الدليل الأوضح على قبول الله لحج عبده.
واستشهدت اللجنة بآيات من القرآن الكريم، منها قوله تعالى:
“وأذِّن في الناس بالحج يأتوك رجالًا وعلى كل ضامر يأتين من كل فجٍ عميق” (سورة الحج: 27).
وذكرت اللجنة أن هناك تسعة أعمال أساسية يجب أن يحرص عليها الحاج بعد عودته، وهي:
1. إخلاص النية والعمل لله وحده: فالإخلاص هو جوهر كل عبادة، ويضمن استمرار بركة الحج.
2. الاستمرار في الطاعات اليومية: من صلاة وصيام وصدقة، فالحج لا يُجزئ عن باقي العبادات.
3. الالتزام بالتقوى: أن يراقب الإنسان نفسه وأفعاله في السر والعلن.
4. الاستقامة: أن يبقى على منهج الله دون تذبذب أو نكوص.
5. شكر الله على نعمة الحج: من خلال العمل الصالح وعدم التباهي.
6. الاستمرار في الدعاء: فالحاج تعوّد على القرب، والدعاء يربطه بالله.
7. المداومة على ذكر الله: فهي زاد القلب.
8. الاستغفار المستمر: لأن الإنسان لا يخلو من الخطأ.
9. الإحسان للناس وتحسين الخلق: لأنه بذلك يعكس أثر الحج في سلوكه.
خامسًا: القبول لا يُقاس بكلمات الناس… بل بأثر الرحلة
كثير من الناس يكتفون بسماع عبارة “حج مبرور وسعي مشكور”، ويظنون أنها تعني أن حجهم قُبل. لكن العلماء ينبهون إلى أن القبول لا يُقاس بالمظاهر ولا بكلمات المجاملة، بل بتغير السلوك بعد العودة.
فمن علامات القبول:
الندم على المعاصي.
التوبة الصادقة.
حب الطاعة والحرص عليها.
الإحساس بالخوف من الله.
حسن المعاملة مع الآخرين.
أما من عاد ولم يتغير فيه شيء، بل ربما ازداد بعد الحج غرورًا أو تكبرًا أو فسادًا، فذاك حج لم يثمر، وعبادة لم تُثمر في القلب.
الحج نقطة تحول لا لحظة عابرة
يعود الحاج من رحلته وقد ارتوى من زمزم، وبكى على عرفات، وسجد عند البيت العتيق، لكن التحدي الحقيقي يبدأ عند عودته إلى حياته اليومية.