ذكرى وفاة الكاتب الروائي محمد مستجاب.. هنا كتب أجمل ما كُتب عن أسيوط

في ذكرى وفاة الكاتب الروائي الكبير محمد مستجاب – رحمه الله – نُعيد نشر واحدة من مقالاته الخالدة، التي خطّها بقلمه الفريد على صفحات “أخبار أسيوط” بجريدة اليوم.
مستجاب الذي لم يكن يكتب عن أسيوط كمدينة على الخريطة، بل ككائن حي نابض، كقارة مستقلة بروحها وتاريخها وغرابتها وعنفوانها. هنا تتجلى أسيوط كما رآها هو: أسطورة تتداخل فيها الجغرافيا بالحكاية، والتاريخ بالأسطورة، والمكان بالوجدان.
أسيوط لم تكن أبدًا مدينة، أو منطقة، أو حتى عاصمة للصعيد، إنما أسيوط – بكل دقة – هي القارة السادسة في هذا العالم الواسع، حدودها الشمالية تحتك بالحزن القديم الضاحك، المرج عند عيون بالاليس، الحسل الأسود في دير مواس، وحدودها تضاع تحت إبطها الدافئ أديب التوحد القديم المتفاعل مع الطفل الرسولي الجميل المبتسم في وجه مريم العذراء تحت حافة الجبل، نهاية أول جزء من الرحلة القدرية هروبًا – على ظهر حمارة – من الأذى اليهودي الروماني في فلسطين، حتى يوسف النجار، حتى تترقرق الصخور القديمة تحت أشعة مقابر متناثرة في منطقة، لتتهدج في عبق عواء خافت لأبي أوى، الذي كان رمزًا للعبادة في تلك المنطقة.
وعندها ترنو قارة أسيوط بعيونها شرقًا لتستقبل الشمس العتيقة التي تتمرغ في جوانحها مدافن فراعنة ونصارى ومسلمين، وتتفرز من بين مسارب جبالها عتاقة أصحاب المواويل، والوحدانيين، والمناسكين، وقطاع الطرق، ورعاة القوافل. ثم على حدودها العليا – جنوبًا – تتواتر إفرازات تاريخية لمواويل ابن عروس، وجمهورية الفتى تمام، وأصداء التفكك الإداري بين العاصمتين جرجا وسوهاج.
وفي العمق – عمق أسيوط – أي في فؤاد هذه القارة الأسطورية، تتفاعل ظلال قديمة حديثة وافدة، هادرة، مشعة بالضوء والحب والاختفاء، وقواعد الشيخ الفرغل وجلال الدين السيوطي، مع الثوار بسلاحهم في منتصف الطريق.
انفتحت طاقات جحيم الرصاص، ومن لم يمت بالرصاص، كانت كارثة. في 1919، وعشرات من أبناء الثورة أُعدموا شنقًا للمدنيين، وبالرصاص للعسكريين. ترى نصب هؤلاء الشهداء في مدخل ديروط، وقد حصلت حصته صناديق المجد، وأقفاص الموز والطماطم، والحوافة، والعنك، والعيش، الذي يجاهد ذلك الشرف العظيم – محافظ أسيوط الحالي – في رفع حصار هذه الطحلاوي: الخضروات والفواكه والحلويات، والشامخ الشاهدة عن شاهدها تنسال من جراح جوى، انبهت أصوات الحد التليد الصاخبة تحت إيقاعات الموسيقى السخيفة الساخرة.
وقبل أن نُغمض العينين عن القطار في ديروط الثوري، لابد لنا من المرور حيث امتد نهر النيل، وما فعله ثوار شلش في ذات تلك الأيام، حين تجمعوا على شواطئ النهر ليقطعوا طريق الباخرة التي تحمل المدد للقوات الإنجليزية بعد حادثة أسيوط.
في السكة الحديد لم يعد هناك قطارات صالحة لنقل الإمدادات، فاضطرت القوات البحرية – النهرية – لتقوم بالدور، غير أن قائد الباخرة فكر في استخدام النهر، استفاد اللئيم في التزام الصمت، وكأن الباخرة بطَّة من بطّات خالتي رُتَيبة أو عمّتي نفيسة. وبعد أن أطلق الثوار الرصاص على الباخرة «البار أفضل» في عرض النيل، لم يواجهوا أية مقاومة.
شاهد..