فى ذكرى رحيله.. أسباب رفض المنشاوي الانضمام للإذاعة

تقرير: مصطفى على
تحلّ اليوم، الجمعة 20 يونيو، الذكرى السادسة والخمسون لوفاة أحد أعظم قراء القرآن الكريم في العصر الحديث، الشيخ محمد صديق المنشاوي، الذي غادر دنيانا في مثل هذا اليوم من عام 1969، الموافق 5 ربيع الآخر 1389 هـ، بعد معاناة طويلة مع مرض دوالي المريء، لكنه ظلّ يقرأ القرآن حتى آخر لحظاته، متمسكًا برسالته، وفنّه، وإيمانه الذي لم يتزعزع.
الشيخ المنشاوي لم يكن مجرد قارئ متقن للقرآن، بل كان أيقونة فنية وروحية نادرة، ورائد مدرسة صوتية فريدة، تُوصف اليوم بـ”المدرسة المنشاوية” التي مزجت بين الخشوع والبكاء، وبين الإتقان الفني والانفعال الشعوري بمعاني القرآن العظيم.
النشأة في بيت النور.. من سوهاج إلى العالم الإسلامي
وُلد الشيخ محمد صديق المنشاوي في قرية المنشاة التابعة لمحافظة سوهاج في صعيد مصر، وسط أسرة قرآنية عريقة نشأ في بيئة يملأها صوت التلاوة وتغمرها روح القرآن كان والده، الشيخ صديق المنشاوي، أحد كبار المقرئين في زمانه، وأول من صاغ ملامح المدرسة الصوتية التي سيحملها ابنه فيما بعد إلى آفاق أعلى.
وفي سن الثامنة، أتم الشيخ محمد حفظ القرآن الكريم، على يد والده الذي لم يكتفِ بتحفيظه، بل علّمه أيضًا أصول التلاوة وأسرار الأداء، وغرَس فيه القيم القرآنية التي كانت تنعكس لاحقًا في كل نَفَس من أنفاس تلاوته.
وبمرور الوقت، صار الشيخ محمد صديق المنشاوي امتدادًا طبيعيًا ومطورًا لتلك المدرسة القرآنية الصعيدية الأصيلة، إذ أخذ منها اللبنة الأساسية، ثم صقلها بصوته الخاشع وأدائه المتفرد، ليصبح علمًا من أعلام التلاوة في العالم الإسلامي.
“الصوت الباكي”.. حينما تنطق الحروف بالدموع
لم يكن لقب “الصوت الباكي” مجرّد تعبير أدبي أو وصف إعلامي، بل كان انعكاسًا حيًا لحالة وجدانية نادرة عاشها المنشاوي مع القرآن كان صوته لا يكتفي بإبراز أحكام التجويد، بل يتجاوزها إلى تصوير المعاني، والتفاعل الحسي مع كل كلمة وآية، حتى يكاد المستمع يشعر أن الشيخ يبكي بالفعل وهو يتلو.
لقد اشتهر الشيخ بأسلوبه الانفعالي المؤثر، الذي جعل تلاواته تُدخل السكينة في القلوب، وتُحلق بالمستمعين في آفاق روحانية عالية لقد تجاوز في تلاوته حدود الأداء الصوتي التقليدي، إلى مقام “الخضوع”، فصار الناس يسمعونه بقلوبهم قبل آذانهم.
إرث تلاواتي خالد.. ومقامات لا تُنسى
امتلك الشيخ محمد صديق المنشاوي رصيدًا ضخمًا من التلاوات، ما بين مرتلة ومجودة، تزين بها أرشيف الإذاعة المصرية، والمساجد الكبرى في العالم الإسلامي ومن أبرز محطاته التلاوات التي سجلها في المسجد الأقصى، وكذلك في الكويت وسوريا وليبيا، بالإضافة إلى الختمة المجودة الكاملة التي تُذاع باستمرار، والتي تعتبر من الكنوز النادرة في تاريخ التلاوة القرآنية.
كما أن له تسجيلًا فريدًا برواية الدوري، إلى جانب القارئين كامل البهتيمي وفؤاد العروسي، ما يعكس تنوعه وقدرته على أداء القراءات المختلفة برشاقة ودقة بالغة.
بين التواضع والرفض.. لماذا لم ينضم للإذاعة في البداية؟
ورغم كل هذا المجد الصوتي، فإن الشيخ المنشاوي لم يكن ممن يسعون وراء الشهرة أو الأضواء، بل كان زاهدًا في الظهور الإعلامي، وهو ما تؤكده شهادات عائلته، ومنها شهادة حفيده علاء المنشاوي، الذي قال في مداخلة هاتفية لبرنامج “صباح الخير يا مصر” إن جدّه لم يكن يرغب في المشاركة في إذاعة القرآن الكريم، لأنه كان يرى في تلاوة القرآن عبادة لا وسيلة للظهور أو التربح.
وأوضح علاء أن العائلة تحرص سنويًا على إقامة ختمة قرآنية في ذكرى وفاته، تعبيرًا عن الامتنان لإرثه ووفاءً لرجل قدّم صوته وحياته كلها لخدمة كتاب الله، معتبرًا أن هذه الختمة ليست إلا نقطة في بحر حسناته الجارية التي تتردد في بيوت المسلمين ومآذنهم حتى اليوم.
ما وراء الصوت.. إرث روحي لا يُقاس
إن قيمة الشيخ محمد صديق المنشاوي لا تُقاس فقط بجمال صوته، أو دقة أدائه، بل بتلك الروحانية النادرة التي بثّها في تلاوته، والتي جعلت اسمه خالدًا في القلوب والذاكرة، يتوارثه الأجيال كما يُتوارث كنز لا يقدّر بثمن.
كان المنشاوي صوتًا قرآنيًا من طراز نادر، من أولئك الذين قال الله عنهم: “الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به”، [البقرة: 121]، وكان في أدائه ترجمانًا حيًا لمعاني الآية.
في ختام الذكرى.. المدرسة المنشاوية باقية لا تموت
رحل الشيخ محمد صديق المنشاوي عن عالمنا في يوم جمعة، تاركًا خلفه تراثًا لا يصدأ، ومدرسة ما زالت تُدرّس وتُستلهم، بين مقارئ الأزهر، والمنابر الإسلامية، وفي قلوب الملايين الذين تربوا على صوته.
ويبقى المنشاوي، رغم مرور أكثر من نصف قرن على وفاته، واحدًا من أعظم الأصوات التي خلدها التاريخ، وجعلها تسكن ذاكرة الأمة الإسلامية إلى الأبد.
رحم الله الشيخ محمد صديق المنشاوي، ورفع درجته في عليين، وجعل ما قدّمه من تلاوات نورًا في قبره ونهرًا لا ينضب من الحسنات إلى يوم الدين.