رئيس جامعة الأزهر: الهداية أعظم النعم

تقرير: مصطفى علي
في سياق تفسيره للبيان القرآني البليغ، قدّم الدكتور سلامة داود، رئيس جامعة الأزهر الشريف، قراءة إيمانية عميقة لآية من أعظم آيات الذكر والشكر، وهي قول الله تعالى:
﴿وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ﴾ [البقرة: 198]
جاء ذلك في حلقة جديدة من برنامج “بلاغة القرآن والسنة”، الذي يُعرض عبر قناة الناس، حيث توقف الدكتور داود عند هذه الآية التي وصفها بأنها دعوة إيمانية مفتوحة للتذكّر والشكر، لا تقتصر على زمن ولا مناسبة، بل تمتد طوال العمر، لما تحمله من تنبيه قرآني بليغ إلى عظمة الهداية كنعمة لا تُقاس بثمن.
الكاف في “كما هداكم”:
مساواة رمزية بين الذكر والهداية.. والمقارنة تكشف عجز الإنسان عن شكرها حقًّا
أوضح الدكتور سلامة داود أن عبارة “كما هداكم” تحمل في ظاهرها تسوية بين أمرين: الذكر من جهة، والهداية من جهة أخرى، وهو ما يُعبّر عنه نحويًا بـ”الكاف للتسوية”، أي أن المطلوب أن يذكر الإنسان ربه بقدر الهداية التي أنعم الله بها عليه.
لكن الحقيقة، كما أوضح رئيس الجامعة، أن هذه مساواة يستحيل تحقيقها فعليًّا، لأنها تكشف ضخامة العطية الإلهية وعجز الإنسان الطبيعي عن ردّها أو الوفاء بحقها، وهي بذلك دعوة خفية للتواضع والانكسار أمام عظمة نعمة الهداية.
وأشار إلى أن هذا الأسلوب البلاغي يحمل في طيّاته تذكيرًا دائمًا للمؤمن بأن الذكر ليس عادة موسمية، وإنما هو استجابة روحية مستمرة بحجم ما أُفيض عليه من النور الرباني.
الهداية: منحة إلهية شاملة لا تُحصر
القرآن لم يقيّدها بالحج.. لتشمل كل جوانب الدين
من أبرز الوقفات التي عرضها الدكتور داود، أن الله تعالى لم يربط الهداية هنا بمناسك الحج فقط، رغم أن الآية وردت في سياق الحديث عن الحج، بل أطلق لفظ الهداية دون تقييد، وهو ما يدل، بحسب تعبيره، على سعة المعنى وامتداد النعمة إلى كل مظاهر الدين: من التوحيد، إلى الصلاة، إلى الزكاة، إلى بر الوالدين، إلى حسن الخُلق.
وقال إن في هذا توجيهًا قرآنيًا بليغًا لعدم حصر الشكر في مواسم معينة، وأن المؤمن مدعوٌ إلى تذكّر الهداية في كل لحظة من حياته، لأنها تمس كل حركة وسكون في طريقه إلى الله.
من الضلال إلى النور:
بلاغة “من الضالين” تُبرز التحول الجذري بلمسة لغوية قوية
توقف الدكتور داود عند الجزء التالي من الآية:
﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ﴾
وبيّن أن استخدام حرف “من” في هذا السياق يُشير إلى الاندماج التام في زمرة الضالين قبل أن يمنّ الله بالهداية، وهو تعبير بلاغي يضرب في عمق الهوية السابقة للمؤمن، ويُشعره بمدى التحول الذي طرأ عليه بفضل الهداية.
وأضاف أن هذه اللفتة اللغوية تدفع المؤمن إلى عدم نسيان ماضيه الضال، ليُقدّر حاضره المُهتدي، ويظل قلبه معلقًا برحمة الله، خاشعًا شكرًا على التغيير الذي لم يكن بقدرته، بل بتوفيق إلهي خالص.
لا تسأل من هلك.. بل اسأل من نجا:
الهداية ليست استحقاقًا بل اصطفاء يستوجب دوام الشكر
في لمحة روحية عميقة، قال الدكتور سلامة داود:
“لا تسأل عن من عطب وهلك، ولكن سل من نجا: كيف نجا؟”
وهذه العبارة المكثفة تختصر فلسفة الهداية في الإسلام: أنها ليست نتيجة ذكاء ولا استحقاق بشري، بل فضل إلهي محض، يتطلّب من الإنسان أن يظل متعلقًا بعناية الله، ساعيًا إلى دوام الرضا والتوفيق.
وأوضح أن الشكر لله لا يكون فقط عبر كلمات التحميد والدعاء، بل يجب أن يكون سلوكًا حياتيًا، يظهر في الطاعة، والصدق، والعمل الصالح، مؤكدًا أن دوام الهداية مرتبط بدوام الشكر، وأن الانقطاع عن الذكر هو أول طريق إلى التيه والانتكاس.
الهداية ليست موسمية
الشكر لا يُربط بالحج فقط.. بل هو منهج حياة
شدّد رئيس جامعة الأزهر على ضرورة فهم سياق النعمة فهمًا شموليًا، وعدم اقتصارها على موسم الحج أو رمضان أو المناسبات، مؤكدًا أن الآية دعوة مفتوحة للعيش في ظلال الهداية في كل وقت.
وأضاف أن ذكر الله، كما الهداية، لا يُحصى بثمن، ولا ينبغي أن يتحول إلى طقس موسمي، بل يجب أن يكون نَفَسًا دائمًا يذكّر الإنسان بمن أنقذه من التيه، وأدخله في نور الإيمان.
خلاصة تربوية من آية واحدة
“واذكروه كما هداكم” ليست أمرًا بل رسالة حب من الله لعباده
اختتم الدكتور داود حديثه بالتأكيد على أن هذه الآية ليست فقط أمرًا تعبّديًا بالذكر، بل هي أيضًا رسالة حب من الله لعباده، يُذكّرهم فيها بأنه لم يتركهم في الضلال، بل اصطفاهم، ووجّههم، وأعانهم، فاستحق الشكر، ليس شكرًا محدودًا، بل شكرًا مستمرًا، ينبع من القلب، ويظهر في السلوك، ويُترجم في الحياة.
وختم قائلًا:
“كلما ازداد وعيك بفضل الهداية، ازداد حياؤك من تقصيرك في شكرها.”
لمشاهدة الحلقة كاملة على قناة الناس:
اضغط هناhttps://www.youtube.com/watch?v=hKIRp-nWB84