“مدينة الخيام”.. خديعة اسرائيلية جديدة على أطلال القضية الفلسطينية

بقلم: اللواء د. رضا فرحات نائب رئيس حزب المؤتمر أستاذ العلوم السياسية
على أطراف المجازر، تنهض الخديعة، و في قلب الدم والرماد، يعرض الاحتلال الإسرائيلي “مدينة الخيام” كحلا إنسانيا، لكن الحقيقة، كما يراها كل صاحب بصيرة، هي أن ما يراد تشييده على تخوم غزة ليس إلا مقبرة جماعية للهوية، و منفى مفتوحا للذاكرة، ومنصة جديدة لإعلان نكبة محدثة بأدوات القرن الحادي والعشرين.
المشروع الإسرائيلي المزعوم – الذي تسربت تفاصيله عبر الصحافة الغربية – لا ينطوي على أية نوايا إنسانية، بل هو امتداد مباشر للعقلية الصهيونية القائمة على التهجير القسري والتطهير العرقي، إنها “هندسة سياسية” جديدة لإعادة تشكيل الجغرافيا الفلسطينية دون الفلسطينيين، وتفكيك غزة من داخلها عبر عزل الإنسان عن أرضه، وتفريغ التاريخ من ساكنيه، ثم عرض البقعة كأرض بلا شعب لشعب بلا أرض.
“مدينة الخيام” ليست مجرد خيام بل إنها إزاحة جماعية تحت مسمى “الإغاثة”، وممر جبري نحو النسيان، فحين تجبر الأمهات على حمل أطفالهن باتجاه المجهول، وحين تترك العائلات بيوتها تحت وقع القصف والجوع، وتجد أمامها خيمة بلا عنوان… حينها فقط تتجلى فصول الخديعة الكبرى: إبدال الوطن بمؤقت، والمقاومة بالخضوع، والحق الشرعي بالمبادرة المفروضة.
من زاوية التحليل السياسي، فإن المشروع يعكس تحولا خطيرا في استراتيجية الاحتلال، يقوم على صناعة “حاضنة مأساوية مؤقتة” بدلا من الحلول الجذرية، لتبرير استمرار العدوان وتحقيق مكاسب ميدانية تحت غطاء إنساني، وهي محاولة لتزيين الخطر، وإعطاء التهجير وجها مقبولا أمام المجتمع الدولي، وتخفيف الضغط عن حكومة الاحتلال التي باتت ملاحقة قانونيا وأخلاقيا بسبب جرائمها ضد المدنيين في غزة.
لكن مصر، بتاريخها وموقعها، لا تنخدع بالأقنعة ولا تنساق وراء العناوين المضللة، الموقف المصري من هذا المشروع واضح لا لبس فيه: “لا لتهجير الفلسطينيين.. لا لطمس الحق.. لا لإعادة إنتاج النكبة”وعبر الرئيس عبد الفتاح السيسي، في أكثر من محفل دولي، عن هذا الموقف الثابت، رافضا أي تسوية أو ترتيبات تفرض على الشعب الفلسطيني بالقوة أو الحيلة أو الضغط.
الدولة المصرية تتحرك اليوم عبر ثلاث مسارات متكاملة: أولها المسار السياسي والدبلوماسي، حيث تحشد الجهود لإفشال هذا المخطط في الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية الدولية، وكشف طبيعته العنصرية واللاإنسانية وثانيها المسار الإغاثي، من خلال استمرار تدفق المساعدات الإنسانية إلى غزة رغم الحصار والتضييق أما ثالثها فهو المسار السيادي، الذي يضع الأمن القومي المصري والفلسطيني في سلة واحدة، ويمنع أي مشروع صهيوني من اتخاذ سيناء أو حدود مصر بوابة خلفية لأي تغيير ديموغرافي.
الاحتلال يدرك أن حلم “مدينة الخيام” لن يمر عبر البوابة المصرية، وأن الذاكرة الجماعية للشعب الفلسطيني لم تفقد بعد فكل خيمة تنصب اليوم هي تكرار لجراح 1948، وكل طريق إجبارية نحو الجنوب هي نسخة جديدة من طريق “الشتات الطويل” لكن ما تغير هذه المرة هو الوعي العربي، وحضور مصر الثابت، واليقظة التي تمنع إعادة تدوير المأساة.
إن فلسطين اليوم لا تحتاج إلى مدينة خيام.. بل إلى كرامة لا تحتاج إلى ملاجئ مؤقتة.. بل إلى حماية دولية لا إلى تقسيمات جديدة.. ووحدة شعبية تحت راية الحقوق التاريخية وهذا ما تدركه مصر، التي وقفت دائما إلى جوار فلسطين، ليس فقط بحكم الجغرافيا، بل بحكم الإيمان العميق بأن أمن فلسطين من أمن القاهرة، وأن النيل لا يمكن أن يجري مرتاحا إذا جفت أعين غزة من الدموع.
إن “مدينة الخيام” ليست حلا إنسانيا بل مشروع اقتلاعي مموه، هدفه تحطيم الإرادة الفلسطينية وإضعاف القضية في وعي الأجيال ولكن هيهات فشعب فلسطين – برغم الجراح – لا يزال ممسكا بأرضه وحقه في إقامة دولته المستقلة ، لا يراوغ في انتمائه، ولا يسلم مفاتيح قراه للرياح ومن خلفه تقف أمة لا تزال تحلم، ومواقف كتلك التي تتبناها مصر، قادرة على كشف الزيف وحماية الحق.
إن الواجب اليوم لا يقف عند حدود التنديد، بل يجب أن يتوسع إلى حراك سياسي عربي جماعي، يسحب الغطاء الدولي عن هذا المشروع المشبوه، ويطالب بإرسال لجان تقصي حقائق إلى أرض الواقع، ويرفع الصوت عاليا بأن “الإنسان لا يحمي بالخيام، بل بالعدالة”، وأن كل ما يبنى على القهر مصيره الزوال.
ولذلك نقولها بوضوح: لا للتهجير.. لا لإعادة النكبة.. لا لمشروع مدينة الخيام نعم للحق الفلسطيني، نعم لكرامة غزة، نعم لدولة مستقلة عاصمتها القدس، وبين هذا “اللا” وتلك “النعم” تتحرك مصر بثبات، وتحمل لواء العروبة دون أن ترف لها راية.