محمود عبد العظيم يكتب: أنانية مغطاة بستائر الخصوصية

كان صوت التلفاز يخفتُ تلقائيًّا إذا ما نُعيت روحٌ في آخر الحارة، وكانت جدّتي تُسدل غطاءً أبيضًا مطرّزًا على الشاشة، كأنما تُكفِّن به صخب الحياة احترامًا لهيبة الموت.
لم يكن الميت قريبًا، ولم تكن الجنازة تمر من تحت شرفتنا، لكن الحزن آنذاك كان لا يُقسَّم على البيوت، بل يُسكب على الأرواح بالتساوي.
نحزن لأن الحي فقد أحدَ سكّانه، لا لأننا فقدنا قريبًا.
أما اليوم، فتمضي الجنازة في صمتٍ لا تُقاطعه دمعة، ولا تنهيدة.
نرفع صوت الموسيقى كي نغرق في التجاهل، نفتح الهواتف لا لنُعزّي، بل لنُمرّر الوقت، ونسأل أنفسنا في لا مبالاة: “من المتوفّى؟ نعرفه؟”
فإن لم نعرفه، تجاوزناه كما نتجاوز إشعارات الهاتف المزعجة.
ثم نقول: “نحب الخصوصية”.
أيّ خصوصية هذه التي تُجفّف ينابيع التراحم فينا؟
أم أننا نُجمِّل بها ملامح أنانيتنا ونغسل بها وجوهنا من غبار الإنسانية؟
كان الرجل إذا أُتيحت له فرصة عمل، التفت إلى من هو أحقّ منه بها، قدّمها لصديقٍ معدم، أو جارٍ أثقلته الديون، أو أخٍ لم تُنصفه الأيام.
وكان الرزق يُقسَّم بقلوبٍ مطمئنّة لا بعقولٍ حسابية، فالخير كان إذا وُجد وُزّع، لا يُخزّن.
واليوم؟
نبحث عن وظيفة لا يعرفنا فيها أحد، ولا نعرف فيها أحدًا، كأننا نهرب من الواجب، أو من عيونٍ قد تُحمّلنا مسؤولية “أن نكون بشرًا”.
نقول “نحب الهدوء”، “نحب الخصوصية”، “نريد أن نعيش لأنفسنا”.
لكن الحقيقة؟
نخشى أن نُحب، أن نُشارك، أن نُعطي، أن نُكشَف.
نخشى أن يرانا أحد ونحن نذوب من أجل الآخرين.
جدّتي -رحمها الله- لم تكن تعرف ماركات الأجهزة ولا أسماء المطابخ العالمية، لكنها كانت تطهو الحياة في “حلةٍ” وحيدة، فوق نار لمبة جاز يتيمة، في عزّ بردٍ يلسع الجلد.
كانت تسكب من تلك الحلة وجباتٍ تشبع البطون، وحكمًا تُشبع الأرواح.
كانت تشرب الشاي في كوباية زجاج سميك، لكن صوتها كان يدفئ القلب أكثر من كل أجهزة التدفئة التي تملأ بيوتنا اليوم.
اليوم؟
الستُّ لا تدخل المطبخ، ليس لأن المرض أقعدها، بل لأن الرفاهية أقعدت الحنين، وأخمدت نار الشوق إلى تفاصيل البساطة.
تطلب طعامًا بلا روح، وتُطعِم أبناءها “وجبات سريعة”، لا تشبع إلا الأجساد، وتترك الأرواح خاويةً من الألفة، ومن طمأنينة البيوت.
صار الأب غريبًا في بيته، والأم مُجهدة من لا شيء، والأبناء يفتشون عن العائلة في غرف “الدردشة”، ويتعلمون الحنان من شاشات زرقاء لا تعرف كيف تواسي.
غابت البركة، لا من الأرزاق فقط، بل من المعاني.
انطفأت الأنوار، لا من المصابيح، بل من القلوب.
ضاعت الألفة، لا من الأزقة، بل من النفوس.
كنّا نعيش بقليلٍ من المال، وكثيرٍ من المحبة.
أما اليوم، فنغرق في كثيرٍ من الرفاهية، وكثيرٍ من الفراغ.
فيا أبناء هذا العصر، قبل أن تُغلقوا الأبواب، وتُسدلوا الستائر، وتُبرروا البرود بالخصوصية…
اسألوا أنفسكم:
هل أنتم تبحثون عن عزلةٍ تحميكم، أم عن جدارٍ تُخفون خلفه خواءكم؟
هل تريدون بيتًا صامتًا، أم بيتًا مطمئنًّا؟
هل ستحيون العمر كله في زوايا الراحة، أم أن قلوبكم ما زالت تشتاق إلى ضوء لمبة جاز، وإلى طبقٍ واحد يأكل منه الجميع، وإلى صوتِ جدّةٍ تقول بعد الآذان: “اللهم اجعل هذا البيت عامرًا بالألفة”