أخبار

رئيس جامعة الأزهر: سورة المائدة تكشف إعجاز ترتيب آيات الحج والصيد

كتب :مصطفى على

في حديث علمي قرآني عميق، كشف الدكتور سلامة داود، رئيس جامعة الأزهر، عن واحدة من صور الإعجاز الفريدة في القرآن الكريم، والتي تتجلى في ترتيب آياته وسوره، مسلطًا الضوء على خصوصية سورة المائدة في سياق الأحكام المتعلقة بالحج، وتحديدًا حكم الصيد للمحرم، الذي لم يرد في أي سورة أخرى، رغم وجود سور أخرى تتناول الحج بصورة أوسع.

في إطار حلقته الأسبوعية من برنامج “بلاغة القرآن والسنة”، والمذاع على قناة “الناس”، أوضح الدكتور سلامة داود أن سورة المائدة تميزت عن سائر سور القرآن الكريم بانفرادها ببيان حكم الصيد للمحرم، وهو حكم دقيق ومفصلي لم يُذكر حتى في سورة “الحج” ذاتها، التي تحمل اسم الشعيرة العظمى.

وأشار إلى أن هذا الانفراد في التناول يمثل وجهًا من أوجه الإعجاز في ترتيب السور والآيات، حيث لم تأت الآيات وفق ترتيب موضوعي عشوائي، بل بحكمة ربانية تقف العقول أمامها متأملة منبهرة، خصوصًا حين نكتشف أن هذه التفاصيل الدقيقة لم ترد في مواضع أخرى أكثر ارتباطًا بالموضوع ظاهريًا، كسورتي “البقرة” و”الحج”.

“يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود”: مفتاح السورة ومفتاح الفهم

استهل الدكتور داود حديثه بالوقوف أمام مفتتح سورة المائدة: “يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود”، معتبرًا أنها آية جامعة تعد بمثابة مدخل تشريعي شامل للسورة كلها، فقد جمعت في طياتها أنواعًا مختلفة من العقود، سواءً كانت دينية أو اجتماعية أو اقتصادية.

ومن ضمن هذه العقود، عقد الإحرام، الذي تترتب عليه أحكام تخص الحاج والمعتمر، من أبرزها تحريم الصيد على المحرم، والذي جاء بيانه في السورة بصورة دقيقة، موضحًا أن ذلك البيان يتكامل مع افتتاحية السورة، في دلالة بلاغية وتشريعية قوية.

ترابط موضوعات السورة وتكاملها

لم يقتصر التميز في سورة المائدة على بيان حكم الصيد فحسب، بل أشار الدكتور داود إلى أن السورة زاخرة بمجموعة من الأحكام التشريعية المتنوعة التي تتداخل في بنية متماسكة.

فقد شملت السورة تحريم الخمر، وإباحة ما تصطاده الجوارح المعلَّمة، إلى جانب أحكام الذبائح، وأخرى تتعلق بالمواثيق والعهود، في وحدة موضوعية مدهشة تعكس ترابطًا دقيقًا بين عناصر السورة، على الرغم من تعدد محاورها.

شهادة الفيلسوف الكندي: عجز الإنسان أمام بلاغة القرآن

في موضع آخر من حديثه، استشهد الدكتور داود بشهادة مهمة للفيلسوف الإسلامي الكبير يعقوب بن إسحاق الكِندي، الذي عُرف بمحاولاته العقلية والفلسفية لمقاربة النصوص القرآنية، لكنه وقف عاجزًا أمام بلاغة القرآن.

وبحسب ما نقله رئيس جامعة الأزهر، فقد أبدى الكندي دهشته من مطلع سورة المائدة، قائلاً:
“لقد عجزت عجزًا تامًا، لأن هذه الآية وحدها جمعت أوامر وتشريعات في إيجاز مذهل لا يقدر عليه بشر”.
وهي شهادة تؤكد أن بلاغة القرآن ليست في الطول أو كثرة الكلمات، بل في عمق المعنى وكثافته وارتباطه بالسياق.

الإيجاز المعجز.. “إيجاز القصر” في التعبير القرآني

وفي معرض تفسيره للظاهرة البلاغية المشار إليها، بيّن الدكتور داود أن هذا النمط من التعبير يُعرف في علوم البلاغة بـ”إيجاز القصر”، وهو نوع من الإيجاز يعتمد على الاختزال اللفظي، دون التفريط في المعنى أو الغاية، بل يزيدها عمقًا وتركيزًا.

واستدل على ذلك بآيات قرآنية أخرى، مثل:

“خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين”

“ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون”

وهي آيات قصيرة في مبناها، لكنها بالغة في معناها، تفتح أمام المتدبر مساحات شاسعة من الفهم والتأمل.

أنهار من المعاني وشلالات من الأسرار”: دعوة للتدبر

اختتم الدكتور داود مداخلته بالتأكيد على أن دراسة الإيجاز في القرآن تحتاج إلى تأمل عميق وتدبر مستفيض، مؤكدًا أن كل آية تحمل في طياتها أنهارًا من المعاني وشلالات من الأسرار، بحسب وصف العلامة الراحل عبد الله دراز.

وأشار إلى أن مثل هذا النوع من التفسير البلاغي واللغوي للقرآن الكريم يفتح آفاقًا جديدة في فهم النص الإلهي، ويدعو المسلمين إلى التعامل مع كتاب الله لا باعتباره فقط كتاب تشريع، بل كتاب هداية وجمال وبيان.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights