تقارير-و-تحقيقات

جدل التمذهب.. بين وحدة الشريعة وتعدد المدارس الفقهية

تقرير: مصطفى علي

منذ بدايات التشريع الإسلامي وتكوّن المدارس الفقهية، ظلّ سؤال “هل يجب على المسلم أن يتبع مذهبًا فقهيًا بعينه؟” وبين من يرى في التمذهب التزامًا بضبطٍ علميٍّ يحفظ الفقه من التسيّب، ومن يعتبره مجرد إطار مدرسيّ قابل للتجاوز، يظلّ الجدل متجددًا.
هذا التحقيق يسعى إلى توضيح المسألة من جوانبها المختلفة: الحكم الشرعي للتمذهب، صور الاختلاف بين الحنفية والشافعية كنموذجين بارزين، وكيف أثّر التنوع المذهبي على حياة المسلمين قديمًا وحديثًا.

نشأة المذاهب: مدارس علمية لا طوائف دينية

المذاهب الأربعة (الحنفي، المالكي، الشافعي، الحنبلي) لم تُنشأ بغرض الانقسام أو التفريق، وإنما جاءت كمدارس اجتهادية لفهم النصوص الشرعية.

المذهب الحنفي تأسس على يد الإمام أبي حنيفة (ت 150هـ) في الكوفة، متأثرًا بالبيئة التي كثرت فيها المسائل الافتراضية والحاجة إلى القياس والرأي.

المذهب الشافعي وُضع لبناته على يد الإمام الشافعي (ت 204هـ)، جامعًا بين مدرسة أهل الحديث في الحجاز ومدرسة الرأي في العراق، ومؤسسًا لعلم أصول الفقه بكتابه الرسالة.

هذا التنوّع لم يكن طائفيًا؛ بل كان تعددًا في طرق فهم النصوص، إذ اتفق الأئمة على الكتاب والسنة، واختلفوا في طرق استنباط الأحكام وترتيب الأدلة.

القاعدة الجامعة بينهم: الاختلاف في الفروع لا يقدح في وحدة الدين.

هل يجب التمذهب؟ الرأي الشرعي والفقهي

تباينت المواقف بين العلماء حول إلزامية التمذهب:

رأي يؤكد على وجوبه العملي: يرى بعض العلماء أن العامي لا قدرة له على الاجتهاد المباشر في النصوص، وبالتالي لا بد له من اتباع مذهب معين ليضمن التزامه بمنهج منضبط هذا الرأي يستند إلى قاعدة: “من لا مذهب له لا مذهب له”، أي من لم يتقيد بأصول فقهية وقع في الاضطراب.

رأي آخر يجيز الانتقاء المنضبط: ذهب فريق من العلماء إلى أن المسلم يمكنه أن يأخذ من أي مذهب ما دام الحكم مدعومًا بالدليل الصحيح لكنهم حذروا من “التلفيق” أو تتبع الرخص، أي اختيار الأسهل من كل مذهب دون ضابط.

رأي ثالث يرفض التمذهب الملزم: يعتبر بعض المفكرين أن التمذهب ليس واجبًا شرعًا، بل يكفي للمسلم أن يسأل من يثق بعلمه ودينه: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43]. وهذا هو الأصل في حق العامي.

إذن، المسألة لا تتعلق بإيجاب تعبدي بل بتنظيم فقهي، حيث يجمع الكل أن المرجع الأول هو الكتاب والسنة، وما المذاهب إلا وسائل لفهمهما.

الحنفية والشافعية: ملامح اختلاف منهجي

يُعد الخلاف بين الحنفية والشافعية من أبرز صور التعدد الفقهي، ويكشف عن اختلاف المدارس في ترتيب الأدلة:

الحنفية يقدمون القياس والاستحسان، ويعتمدون على الرأي في المسائل التي لم يرد فيها نص صريح فمثلاً في مسألة الماء المستعمل (أي الذي استُعمل في طهارة): يرون أنه طاهر غير مطهر، لأنه تغير عن حالته الأولى.

الشافعية يعتمدون على ظاهر النصوص ويُعظمون الحديث، حتى لو عارض القياس وفي مسألة الماء المستعمل، يرون أنه طاهر مطهر ما لم يتغير أحد أوصافه.

في صلاة الجماعة: الحنفية يعدونها واجبة وليست فرض عين، بينما الشافعية يرونها سنة مؤكدة.

في مسألة البسملة في الصلاة: الشافعية يوجبون قراءتها في الفاتحة، والحنفية يعدونها آية للفصل لا واجبة التلاوة.

هذه الاختلافات لا تعكس تعارضًا مع الدين بل تنوعًا في فهم النصوص.

أثر التعدد المذهبي في التاريخ الإسلامي

على امتداد القرون، لم يُشكّل التعدد المذهبي عائقًا لوحدة الأمة، بل كان مصدر ثراء:

في القضاء، اعتمدت بعض الدول الإسلامية مذهبًا معينًا كأساس للتشريع، مثل الدولة العثمانية التي تبنت المذهب الحنفي.

في الأزهر الشريف، دُرِّست المذاهب الأربعة معًا، مما أتاح للطلاب رؤية متكاملة.

في الفقه المقارن، وُلدت اجتهادات حديثة من خلال الجمع بين أقوال المذاهب المختلفة للوصول إلى حلول تناسب النوازل المعاصرة.

وفي الواقع المعاصر، يُستخدم هذا التنوع في المجامع الفقهية لاختيار ما يحقق المصلحة العامة وفق مقاصد الشريعة، دون الالتزام بمذهب واحد حصريًا.

التعدد المذهبي بين الوحدة والفرقة

يُخطئ البعض حين يخلط بين “التعدد” و“التفرق” فالخلاف المذهبي الفقهي يختلف عن الانقسام العقائدي أو السياسي.

الاختلاف في الفروع مقبول بل محمود، لأنه يعكس سعة الشريعة: قال عمر بن عبد العزيز: “ما أحب أن أصحاب رسول الله ﷺ لم يختلفوا؛ لأنه لو كان قولًا واحدًا لكان الناس في ضيق، وإنهم أئمة يُقتدى بهم، فإذا أخذ رجل بقول أحدهم كان فيه سعة”.

الخطورة تكمن حين يتحول المذهب إلى هوية صدامية، أو وسيلة لإقصاء الآخر، وهو ما لم يكن في عصر الأئمة ولا تلامذتهم.

التنوع المذهبي انعكس على واقع النساء بشكل خاص:

في قضايا الطلاق والنفقة، تجد بعض النساء في الأحكام الشافعية مساحة أوسع لحفظ حقوقهن، بينما قد يختار القضاء في بلدٍ آخر الرأي الحنفي الأكثر صرامة.

في الزينة والعمل، هناك اختلافات في مدى جواز بعض الممارسات، ما يمنح النساء خيارات فقهية متعددة وفق ظروفهن.

الموقف الشرعي الجامع: وحدة النصوص وسعة الاجتهاد

تُجمع المرجعيات الدينية الكبرى على أن:

1. المذاهب مدارس اجتهادية وليست ديانات، والانتماء إليها ليس فرضًا تعبديًا.

2. الأصل هو اتباع الكتاب والسنة، والتمذهب وسيلة لفهمهما لا غاية.

3. الاختلاف الفقهي رحمة، شريطة ألا يُستغل لإثارة الفرقة أو التكفير أو التعصب.

4. العامي مأمور بسؤال العلماء، وليس ملزمًا بتحديد مذهب ما دام يأخذ بالحكم المدعوم بالدليل.

التعدد بين رحابة الشريعة وضيق الأفهام

يبقى الجدل حول التمذهب انعكاسًا لطبيعة الشريعة نفسها: مرنة، واسعة، تستوعب تنوع العقول والبيئات فالمذاهب ليست قيودًا تُكبّل الدين، بل جسورًا تُقرّب النصوص من واقع الناس. وإذا كان الإسلام قد ترك باب الاجتهاد مفتوحًا، فإن التمذهب يظل خيارًا تنظيميًا لا حتمية شرعية.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights