ذكرى رحيل محمود علي البنا.. صوت السماء الذي خلدته تلاوات الأرض

تقرير:مصطفى على
تحل اليوم، الأحد 20 يوليو، الذكرى التاسعة والثلاثون لرحيل القارئ الكبير الشيخ محمود علي البنا، أحد أبرز أعلام التلاوة في مصر والعالم الإسلامي، الذي شكَّل بصوته العذب وأدائه الخاشع مدرسة فريدة في فن التلاوة القرآنية، لا تزال صداها يتردد في أرجاء العالم حتى بعد وفاته. ورغم رحيله في عام 1985، إلا أن الشيخ البنا ترك تراثًا خالدًا يُعد من أعظم ما أنجبته مصر من قراء القرآن الكريم، صوتًا وعلماً وتأثيرًا.
النشأة والتكوين.. من “شبرا باص” إلى مقامات السماء
ولد الشيخ محمود علي البنا في 17 ديسمبر عام 1926، بقرية شبرا باص التابعة لمركز شبين الكوم بمحافظة المنوفية شمال دلتا مصر، في بيئة ريفية بسيطة، ولكنها كانت عامرة بحب القرآن الكريم.
حفظ القرآن على يد الشيخ موسى المنطاش في كُتّاب قريته، وأتمّ الحفظ في سن الحادية عشرة، وهو سن مبكرة تؤكد نبوغه وقدرته الفائقة.
انتقل بعد ذلك إلى مدينة طنطا، حيث التحق بالجامع الأحمدي، وتلقى هناك العلوم الشرعية وعلوم القراءات على يد الإمام إبراهيم بن سلام المالكي، أحد أعلام القراءات في ذلك الوقت وهناك، بدأت تتضح ملامح نبوغه الصوتي وقدرته على تقليد كبار القراء، لا سيما الشيخ محمد رفعت، حتى لُقب بـ”الطفل المعجزة”.
منابر القاهرة.. ولادة الصوت الذهبي
في عام 1945، انتقل الشيخ محمود البنا إلى القاهرة، وهي الخطوة التي شكّلت انطلاقة حقيقية لمسيرته القرآنية، فسرعان ما ذاع صيته بين المقرئين، بفضل صوته الرخيم وتكنيكه الفريد في الأداء تعلّم هناك علم المقامات الموسيقية وأصول التلاوة المتقنة، على يد أحد أعمدة فن المقامات في مصر آنذاك، الشيخ درويش الحريري.
وفي عام 1947، اختير قارئًا لجمعية الشبان المسلمين، وكان يفتتح بها الاحتفالات الرسمية، مما جعله في دائرة الضوء أمام كبار الشخصيات، منهم علي ماهر باشا والأمير عبد الكريم الخطابي، الذين أعجبوا بتلاوته وأوصوا بترشيحه للإذاعة المصرية.
التتويج بالإذاعة.. حين صعد صوته إلى بيوت المصريين
في ديسمبر من عام 1948، صدح صوت الشيخ البنا للمرة الأولى عبر أثير الإذاعة المصرية، بتلاوة من سورة هود، ليصبح لاحقًا من أعمدتها الراسخةولم تمضِ سنوات قليلة حتى أصبح من أشهر قراء الإذاعة، إذ تميز بتسجيل المصحف المجود والمصحف المرتل، وترك إرثًا كبيرًا من التلاوات الخاشعة.
تم اختياره قارئًا لمسجد عين الحياة أواخر الأربعينيات، ثم لمسجد الإمام الرفاعي في الخمسينيات، ليصبح قارئ الجامع الأحمدي بمدينة طنطا عام 1959، وظل هناك حتى عام 1980، حيث انتقل إلى مسجد الإمام الحسين في قلب القاهرة، وظل يختم هناك تلاواته إلى أن وافاه الأجل
سفير القرآن.. من الحرمين إلى أوروبا
لم يقتصر أثر الشيخ البنا على مصر فقط، بل حمل لواء القرآن إلى بقاع الأرض، فزار المملكة العربية السعودية، وقرأ في الحرم المكي والمسجد النبوي، كما قرأ في الحرم القدسي الشريف، والمسجد الأموي في دمشق، وشارك في العديد من الفعاليات القرآنية بالدول العربية، مثل الإمارات والكويت وليبيا.
أما في الغرب، فقد زار ألمانيا عام 1978، وقرأ في كبرى المساجد الأوروبية، واعتُبر صوتًا دعويًا وسفيرًا للثقافة الإسلامية، لا سيما وأنه كان يتمتع بقدرة نادرة على توصيل معاني القرآن باللغة الصوتية فقط، دون الحاجة إلى الترجمة.
بصمة صوتية فريدة.. تجسيدٌ للمعاني لا يعرف مثله الزمان
وصفه العلماء بأنه صاحب “أدق تصوير صوتي للآيات القرآنية”، إذ كان يعيش النص القرآني وجدانًا وصوتًا. وقد أشاد به الشيخ خالد الجندي، عضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، وخصّ تلاوته لسورة طه، قائلاً: “إنه يقدم أصدق وأقرب تصوير صوتي لمعاني الآيات، بطريقة تجعل المستمع يشعر أنه داخل المشهد القرآني نفسه.”
وأكد الجندي أن تلاوته لآيات مثل “وتجري بهم في موج كالجبال” أو “فنادى في الظلمات” تجسد حالة شعورية عالية يعيشها المستمع، كما أن تلاوته لقصة آدم في قوله تعالى: “فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا…” تحمل معاني الحسرة والندم بطريقة لا تحتاج معها إلى أي تفسير لغوي.
جهود تنظيمية.. من أجل نقابة للقراء
كان الشيخ البنا مؤمنًا بضرورة وجود كيان يحمي حقوق القراء ويصون رسالتهم، فكان من أوائل المنادين بإنشاء نقابة لقراء القرآن الكريم في مصر، وساهم بفعالية في تأسيسها عام 1984، واختير نائبًا للنقيب، وهو الدور الذي أكده في سنواته الأخيرة قبل وفاته، حيث سعى إلى الارتقاء بمستوى القرّاء وحماية المهنة من الدخلاء.
الرحيل.. وبقاء الأثر
في 3 من ذي القعدة 1405 هـ الموافق 20 يوليو 1985م، رحل الشيخ محمود علي البنا عن عمر ناهز 59 عامًا، بعد رحلة عطاء ثرية امتدت لأربعة عقود في خدمة كتاب الله، ووري جثمانه الثرى في ضريح خاص ألحق بمسجده في قريته شبرا باص بمحافظة المنوفية.
وفي عام 1990، منح الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك اسمه وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى، تكريمًا لما قدّمه من خدمات جليلة للقرآن الكريم، وإعلاءً لقيمة الصوت المصري في الساحة القرآنية الدولية.
مدرسة البنا.. عطر باقي في ذاكرة التلاوة
لم يكن الشيخ محمود علي البنا مجرد قارئ قرآن، بل كان مدرسة مستقلة في الأداء والتجويد، وصاحب رؤية جمالية في تذوق الآيات وإيصالها للمستمعين، فصار نموذجًا يُحتذى به بين أجيال القراء، ومصدر إلهام دائم للباحثين عن الخشوع في تلاوة القرآن.
ويبقى صوت البنا، إلى اليوم، أحد أجمل وأعمق الأصوات القرآنية، لا تغيب عنه الروحانية، ولا تفتر فيه المشاعر، وكأن كل تلاوة له هي صلاة خاشعة تُصعد الأرواح إلى الملأ الأعلى.