حرب الرسوم الكبرى.. تصعيد ترامب يُشعل الاقتصاد العالمي
الاقتصاد العالمي تحت تهديد أكبر مواجهة تجارية في العصر الحديث

مع تسارع التداعيات الوخيمة لاستراتيجيته الاقتصادية، تراجع الرئيس الأميركي دونالد ترامب اليوم الخميس عن خطته الشاملة للرسوم الجمركية، بإعلانه عن إيقافها لمدة 3 أشهر.
حيث أنه في خطوة مفاجئة هزّت الأسواق العالمية وأربكت المستثمرين، أعلن ترامب عن رفع فوري للرسوم الجمركية على السلع الصينية إلى مستوى قياسي بلغ 125%، متهمًا بكين بـ”انتهاك قواعد السوق العالمية”، ومتوعدًا بوضع حد لما وصفه بـ”استغلال الولايات المتحدة”.
وأكد ترامب أن هذه الخطوة تأتي في إطار استراتيجية شاملة لإعادة التوازن إلى العلاقات التجارية الدولية.
وفي سياق موازٍ، أعلن الرئيس الأميركي عن تعليق مؤقت للرسوم الجمركية البالغة 10%، موضحًا أنه أذن بوقف العمل بها لمدة 90 يومًا، مع فرض تعريفة جمركية متبادلة مخففة بنسبة 10% تسري على الفور، بهدف إتاحة المجال لمزيد من التفاوض. وأضاف أن أكثر من 75 دولة بادرت بالتواصل مع مسؤولي إدارته لبحث حلول بديلة وتخفيف حدة التصعيد.
ويُذكر أن ترامب كان قد فرض رسومًا جمركية جديدة على السلع الصينية بنسبة 104%، دخلت حيز التنفيذ في صباح الأربعاء ، ما زاد من وتيرة التوتر التجاري بين القوتين الاقتصاديتين الأكبر في العالم.
وفي رد سريع ، أعلنت وزارة المالية الصينية عن رفع الرسوم الانتقامية على السلع الأميركية من 34% إلى 84%، اعتبارًا من يوم الخميس، في خطوة تؤكد أن الحرب التجارية بين واشنطن وبكين دخلت مرحلة جديدة أكثر تصعيدًا وخطورة، مع ما تحمله من تداعيات واسعة على النظام التجاري العالمي والاستقرار الاقتصادي الدولي.
آثار اقتصادية فورية وقلق دولي متصاعد
القرارات الجديدة أثارت حالة من الاضطراب العنيف في الأسواق المالية، إذ سجلت مؤشرات الأسهم الرئيسية في نيويورك وأوروبا وآسيا تراجعات حادة، وسط مخاوف من موجة جديدة من الركود العالمي. وتسبب إعلان ترامب الأخير في خسائر تقدّر بتريليونات الدولارات من القيمة السوقية للشركات الكبرى، لا سيما العاملة في قطاعات الإلكترونيات، التكنولوجيا، والصناعات التحويلية.
في هذا السياق، يشير محللون إلى أن رفع الرسوم الجمركية إلى هذا المستوى القياسي يعكس تحوّلاً استراتيجيًا في سياسات ترامب، من مجرد ضغوط اقتصادية إلى محاولة واضحة لفرض الهيمنة التجارية بالقوة. ويهدد هذا التحول بانهيار النظام التجاري العالمي القائم على التعددية والانفتاح، وهو ما تأسست عليه منظمة التجارة العالمية لعقود.
وأكد أستاذ الاقتصاد في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة وجامعة النيل، ومعهد البحوث والدراسات العربية ،الدكتور مدحت نافع في تصريحات خاصة لجريدة “اليوم” أن : “أي تحليل عقلاني للظاهرة الحالية المتعلقة بالرفع المستمر للتعريفات الجمركية بهذا الشكل الهستيري خلال الـ48 ساعة الماضية يعتبر عبثًا”. وأكد نافع أن أسلوب الضغط على الدول ودعوتها للجلوس على طاولة المفاوضات عن طريق معاقبتها والتصرف بشكل أحادي الجانب هو أسلوب غريب وغير معتاد من قبل الإدارات الأمريكية السابقة، حتى أكثرها تشددًا. فبالعودة إلى تاريخ طويل من الممارسات الأمريكية، نجد أن الرئيس الأمريكي الشهير ماكينلي، الذي اغتيل عام 1901، كان صاحب تعريفات جمركية شديدة العنف، ولكنها لم تكن مألوفة في هذا السياق الحالي الغريب.
التأثير المحتمل على الدول العربية
من المتوقع أن يكون للقرارات الجديدة تأثير مباشر وغير مباشر على الاقتصادات العربية، خصوصًا تلك المعتمدة على تصدير النفط، أو الدول التي ترتبط سلاسلها التجارية بالصين أو الولايات المتحدة. فرفع الرسوم إلى هذه المستويات من شأنه أن يقلل من الطلب العالمي على الطاقة، ويؤثر على استقرار أسعار النفط، الأمر الذي سيضغط على الموازنات العامة في دول الخليج بشكل خاص.
كذلك، فإن ارتفاع أسعار المواد الأولية والتجهيزات المستوردة قد يُثقل كاهل الدول العربية التي تعتمد على الاستيراد، في ظل اضطراب سلاسل التوريد العالمية، ما ينذر بتحديات إضافية على مستوى التضخم ومعيشة المواطنين.
ومع تصاعد المخاطر، تبرز فرصة أمام بعض الدول العربية لجذب الشركات العالمية الباحثة عن بدائل خارج نطاق الصراع، عبر توفير بيئة استثمارية مستقرة وبنية تحتية قوية.
التأثيرات طويلة المدى على الأسواق العالمية
وفيما يخص تأثير الحرب التجارية، قال نافع: “الحرب التجارية لها أبعاد متعددة على مختلف الأسواق. وأهم الآثار ليست في التجارة أو تكلفتها. الدليل على ذلك أن أسواق المال في الدول الأقل خضوعًا للتعريفات الجمركية مثل دول الخليج ومصر كانت الأكثر تضررًا في الأيام الأولى بعد أسواق أوروبا وأمريكا. وهذا يعني أن تدفقات رؤوس الأموال هي العامل المؤثر بشكل كبير. فعلى سبيل المثال، دولة مثل مصر تعتمد بشكل كبير على رؤوس الأموال الخارجية لسد فجوة الموارد وفجوة الادخار المحلي والاستثمار، وهذا ما ينعكس على المعاناة التي نراها، مثل خروج سريع للأموال وصل إلى حوالي 3 مليار دولار في الأيام الثلاث أو الأربع الماضية، وهو ما كان له تأثير واضح على سعر الصرف”.
وأضاف نافع أن هذه الظاهرة تشير إلى أن هذه الحرب التجارية تتجاوز تأثيراتها التقليدية على السلع، لتكون لها تأثيرات غير مباشرة على الاقتصادات التي تعتمد على تدفقات رأس المال، مشيرًا إلى أن بعض الدول قد تجد في هذه الظروف فرصة للتوسع واستقطاب الاستثمارات العالمية.
د. مدحت نافع: الحرب التجارية ليست مجرد تصعيد اقتصادي
وفيما يتعلق بمستقبل الحرب التجارية، أكد د. مدحت نافع في تصريحاتة ل”اليوم” أن الوضع الحالي قد لا ينتهي بسهولة. وقال: “بما أن النبرة قد ارتفعت إلى هذا الحد، خاصة مع التهديدات برفع التعريفات الجمركية إلى 500% ضد الصين، أعتقد أننا بصدد تسوية قريبة للموقف، ولكن ليس من خلال الضغط على الصين للجلوس في مفاوضات. لا أعتقد أن الضغط سيأتي من الخارج، بل سيكون من الداخل الأمريكي ومن المؤسسات الأمريكية في المقام الأول، وذلك بهدف إعادة الإدارة الأمريكية إلى الرشادة لتجنب انهيار أسواقها محليًا وأسواق الدين والسندات التي لا يمكن لأمريكا أن تتحمل انهيارها أو تقلباتها بشكل عنيف”.
التصعيد والتصعيد المضاد: “لعبة الأيكيدو”
أما عن التصعيد المتبادل بين الصين وأمريكا، أكد د. مدحت نافع أن الصين تلعب اللعبة بمنتهى الذكاء، إلى جانب أوروبا، حيث يعتمدون على الغرور الأمريكي في انهيار أمريكا ذاتيًا. وأضاف أن هذا يندرج ضمن نوع من السياسات يسمى “لعبة الأيكيدو”، التي تعتمد على استخدام قوة الخصم ضده. وأكد نافع أن هذه هي الطريقة التي تستخدمها الصين حاليًا في التعامل مع الوضع.
الآفاق المستقبلية للنظام التجاري العالمي
وفي الختام، شدد نافع على أن النظام العالمي القائم يتعرض لخطر وإعادة التشكيل، وأن مسألة الانهيار لا يمكن لأحد أن يتحملها. وأكد أنه لا يعتقد أن أحدًا سيقدم على ذلك، مشيرًا إلى أن الدول النامية، التي لا تصنع قراراتها، يجب أن تتحلى بالحذر في اتخاذ قراراتها المقبلة. كما عليها الاستعداد لتغيرات كبيرة في النظام العالمي، والعمل على توطين العديد من الصناعات، والتقليل من الاعتماد على العملة الصعبة والدين الخارجي قدر الإمكان.
وختامً لا يُعد التصعيد الجديد في الرسوم الجمركية بين الولايات المتحدة والصين تطورًا عابرًا، بل يمثل نقطة تحول حادة في مسار الحرب التجارية، ويُجسّد تغيرًا عميقًا في قواعد التنافس العالمي. وتبقى الأنظار متجهة إلى ردود الفعل الدولية، واحتمال تحرك جماعي من قبل القوى الاقتصادية الكبرى لحماية النظام التجاري العالمي من الانهيار.