الدكتور محمود منصور يكتب: تأثير شركات التمويل على الفقراء
في عام 1983 قام الاقتصادي البنجلاديشي محمد يونس، والذي يعتبر نموذجًا بارزًا للتمويل الصغير (الميكروفينانس)، بإطلاق بنك جرامين لتوفير قروض صغيرة للأشخاص الفقراء في بنغلاديش دون الحاجة إلى ضمانات، مما ساعدهم على تحسين دخلهم ومواجهة التحديات المالية.
قام يونس بإدخال مفهوم القروض الصغيرة لمساعدة الفقراء على بدء مشاريع صغيرة أو تحسين ظروفهم الاقتصادية، وأثبت أن الفقراء يمكنهم تسديد القروض بنجاح دون الحاجة إلى ضمانات كبيرة. وساعد آلاف الأفراد على بدء أعمال صغيرة وتحسين حياتهم، مما أدى إلى تقليل الفقر في المجتمعات المستهدفة.
كما اعتمد بنك جرامين على نموذج القروض الجماعية حيث يتعاون أفراد المجتمع لضمان سداد القروض، مما يعزز من الالتزام والتعاون بين الأفراد. و ساهم هذا النموذج في تحسين نسب سداد القروض ويعزز من الروابط الاجتماعية بين الأفراد.
وتعد تجربة محمد يونس في بنغلاديش عبر بنك جرامين تمثل إنجازاً كبيراً في مجال التمويل الصغير، حيث قدمت نموذجاً مبتكراً في مساعدة الفقراء وتحسين حياتهم. ومع ذلك، مثل أي تجربة، تواجه التحديات والانتقادات التي تتطلب تحسينات مستمرة. بشكل عام، تُعَدُّ هذه التجربة نقطة تحول في كيفية التعامل مع قضايا الفقر والتنمية الاقتصادية، وقد أثرت بشكل كبير على السياسات المالية والتنموية حول العالم.
وبعد ذلك عمدت المؤسسات الدولية في تعزيز انتشار شركات تمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة ومتناهية الصغر، من أجل زيادة معدلات تمكين الأسر الفقيرة، إلا أن الواقع الرأسمالي لم يكن يهمه إلا زيادة معدلات الأرباح، ولن يحدث ذلك إلا عن زيادة الفوائد تحت مسميات التسهيلات الإدارية بمجرد امتلاك بطاقة رقم قومي أو اثبات الهوية يمكنك الحصول على تمويل فوري دون أي قيود أو تعقدات، وهذا جعل كثير من الفقراء يلجئون إلى هذه الشركات بحثاً عن أموالاً دون سابق عناء، لا يتم استخدمها في إقامة مشروعات بل في منتجات استهلاكية، في ظل ثبات الدخل المتحصل عليه من قبل الأفراد، تزداد حدة الأقساط، والفوائد المرتفعة، وتضطر الأسرة إلى اللجوء إلى طلب المزيد من التأجيل ويصاحب ذلك مزيداً من الفوائد، وهكذا تقع الأسر في دائرة الفقر المغلقة، دخل ثابت مضطرب، يضطر إلى اللجوء إلى شركات التمويل لأخذ قرض ثم يحين السداد فيتعثر فيلجئ مرة أخرى إلى مزيد من القروض لسداد القرض السابق وأقساطه وفوائده، وهكذا حتى يبيع كل ما يملك، ثم ينتهي به المطاف إلى ارتكاب جرائم من أجل الحصول على المال كي لا يسجن!
تتمثل مخاطر شركات التمويل أنها تقدم قروضاً لأشخاص لا يعرفون شيئاً عن ريادة الأعمال ولا يملكون أفكاراً ملهمة يستطاع من خلالها إقامة مشروع مدروس من خلاله يستطيع تحسين حياته المعيشية، هكذا يتم الترويج لهذا الأمر كي تبرر الرأسمالية سلبها لأدوات التمكين للمجتمعات، الاعتقاد بأن الفقراء لا يصلحون لريادة الأعمال يمكن أن يكون مبنياً على عدة عوامل وفرضيات:
قيود الموارد والفرص
فالفقراء قد يواجهون قيوداً كبيرة في الوصول إلى رأس المال، التعليم، والتدريب اللازم لريادة الأعمال. نقص هذه الموارد يمكن أن يعيق قدرتهم على بدء وإدارة أعمال ناجحة. وهذا بدوره أدى إلى عدم توفر الموارد الأساسية يمكن أن يجعل من الصعب على الفقراء تقديم فكرة تجارية قوية، إدارة الأعمال بكفاءة، والتوسع في السوق.
نقص الدعم والشبكات
فالنجاح في ريادة الأعمال في ظل منظومة رأس مالية المحاسيب غالباً ما يتطلب الوصول إلى شبكات مهنية ودعم من مستشارين وشركاء. الفقراء قد يفتقرون إلى هذه الشبكات أو الدعم اللازم. وبدون دعم قوي، يمكن أن يكون من الصعب على الفقراء الحصول على مشورة قيمة، توجيه، وموارد أخرى ضرورية لنمو الأعمال.
قضايا تتعلق بالتعليم والتدريب
فالريادة تحتاج إلى مهارات خاصة في إدارة الأعمال، التسويق، والمالية. والفقراء قد لا يكون لديهم وصول إلى التعليم والتدريب المتخصص في هذه المجالات، وذلك يرجع إلى عدة عوامل أهمها عد المساوة في الفرص، وقيام منظومة محتكرة لا تسمح لغيرها من الدخول إلى السوق إلا عن طريقها.
ضغوط الحياة اليومية
فالفقراء قد يكونون مشغولين بشكل أساسي بتلبية احتياجاتهم الأساسية مثل الغذاء والسكن، مما قد يترك لهم وقتاً وموارد محدودة للتفكير في ريادة الأعمال. فالضغوط اليومية قد تمنعهم من التركيز على تطوير الأفكار التجارية أو إدارة المشاريع بنجاح.
إجمالاً تستخدم أغلب هذه أموال شركات التمويل في سلع استهلاكية، وكشف تقرير صادر عن الهيئة العامة للرقابة المالية في أبريل الماضي نمو حجم التمويلات الممنوحة لعملاء نشاط التمويل الاستهلاكي 58.3 % خلال الفترة حتى ديسمبر (كانون الأول) 2022 على أساس سنوي. وأوضحت الهيئة أن قيمة التمويل الاستهلاكي الممنوح خلال ديسمبر 2022 بلغ نحو 2.9 مليار جنيه (94 مليون دولار) في مقابل 1.8 مليار جنيه (58 مليون دولار) خلال ديسمبر 2021 بنمو 58 %.
وبلغ عدد عملاء نشاط التمويل الاستهلاكي 247.9 ألف عميل خلال ديسمبر 2022 مقارنة بـ 130 ألف عميل خلال الفترة نفسها من العام الماضي بارتفاع 90.7 %.
واستحوذت الأجهزة الكهربائية والإلكترونيات على الجزء الأكبر من قيمة التمويل الاستهلاكي الممنوح للسلع والخدمات بـ 35.5 % خلال ديسمبر 2022، يليها شراء المركبات والسيارات بنحو 31.10 %، ثم الأثاث وتجهيزات المنازل 7.1 %، ثم الملابس والأحذية والحقائب والساعات والمجوهرات والنظارات 5.4 %، ثم السلع المعمرة 4.29 %. جاءت في المرتبة السادسة التشطيبات والتجهيزات المنزلية بـ 4.09 %، ثم المواد الغذائية بـ 2.4 %.
في حين حلت المشتريات الصادرة بفاتورة واحدة من المحال والسلاسل التجارية المختلفة في المرتبة الثامنة بـ 2.3 %، واحتلت خدمات النوادي الرياضية وسلع أخرى المرتبة الأخيرة.
وأعلنت الهيئة أن قطاع التمويل الاستهلاكي شهد أداء طيباً خلال عام 2022، إذ بلغت قيمة التمويل الاستهلاكي الممنوح 29.8 مليار جنيه (965 مليون دولار) خلال عام 2022، مقارنة بـ 17 مليار جنيه (551 مليون دولار) تمويل استهلاكي ممنوح خلال عام 2021، محققاً معدل نمو بلغ 75.3 %.
أما ما يتعلق بمخاطر شركات التمويل في مصر، فسبب نقص المعلومات والبيانات الرسمية عن سببها أنها أحد أهم أسباب الفقر زيادة معدلات الجريمة، واعداد الغارمين، حيث أن الحالات الواقعية أكثر مما يتصور، وهكذا يجد المقترضين أنفسهم أمام التهديد بالحبس والسجن، فتزيد معدلات الإقتراض من شركات أخرى والأقراب ويصل الحال إلى اللجوء إلى الجمعيات الخيرية وجمعيات المجتمع المدني من أجل سداد تلك القروض لينتهي المطاف إلى أخذ أموال الصدقات والزكوات من الجمعيات الخيرية لتصب في جيوب المرابين، خوفاً من دخول رب الأسرة السجن، وهذا من شأنه يزيد من معدلات التفكك الأسري والذي بدوره يزيد من تدهور المجتمع وزيادة معدلات الجريمة، وهكذا يتم تفكيك المجتمعات تحت وظأت تمويل المشروعات!!!
هناك العديد من الأفراد الذين دخلوا في دوامة الديون نتيجة للاقتراض من شركات التمويل ذات الفوائد المرتفعة، مما جعلهم في وضع مالي صعب ولم يتمكنوا من تحسين أوضاعهم الاقتصادية. في بعض المجتمعات، تساهم القروض ذات الفوائد المرتفعة في زيادة معدلات الفقر والتفاوت الاجتماعي، حيث يصبح من الصعب على الأسر ذات الدخل المنخفض تحسين أوضاعهم المالية، أحد التقارير يذكر حالة فرد اقترض مبلغاً صغيراً من شركة تمويل ذات فائدة مرتفعة، وعندما تأخر في السداد، فرضت الشركة عليه غرامات ضخمة وأدوات تحصيل قاسية. كان هذا الشخص يواجه صعوبة في سداد القرض بسبب الشروط الغير عادلة، مما زاد من ديونه بشكل كبير وأثر سلبياً على وضعه المالي. في سيرلانكا تم ربط أكثر من 200 حالة انتحار بسبب أعباء مدفوعات شركات التمويل. ويمكن إجمال مخاطر هذه الشركات فيما يلي:
الفوائد المرتفعة:
شركات التمويل قد تفرض فوائد مرتفعة على القروض، خاصة في حالة القروض الشخصية أو قروض الشركات الصغيرة. هذه الفوائد المرتفعة يمكن أن تكون عبئًا كبيرًا على المقترضين، مما يزيد من تكاليف الاقتراض بشكل كبير. وهذه الفوائد المرتفعة تزيد من الأعباء المالية على الأفراد والشركات، مما قد يؤدي إلى صعوبة في سداد القروض ويزيد من احتمالية التورط في الديون.
الفجوة بين الأقساط والدخل:
في بعض الأحيان، قد تكون أقساط القروض غير متناسبة مع دخل المقترضين، مما يعني أن القسط الشهري قد يكون عبئًا ثقيلًا بالنسبة لهم. هذه الفجوة يمكن أن تجعل من الصعب عليهم تغطية نفقاتهم الأساسية. وقد يضطر الأفراد إلى تقليص إنفاقهم على الاحتياجات الأساسية أو اللجوء إلى حلول مالية غير صحية لتغطية أقساط القروض، مما يزيد من الضغط المالي.
التورط في الديون:
بعض الأفراد قد يجدون أنفسهم في حلقة مفرغة من الديون بسبب الاقتراض المتكرر لسداد القروض السابقة. يمكن أن يؤدي هذا إلى مشاكل مالية خطيرة وإلى الدخول في دوامة من الديون. يمكن أن يؤثر ذلك سلبًا على الاستقرار المالي للأفراد والعائلات، ويزيد من معاناتهم الاقتصادية.
تقويض الاستقرار الاجتماعي:
التورط في ديون كبيرة وعدم القدرة على سداد القروض قد يؤدي إلى مشاكل اجتماعية أوسع مثل زيادة معدلات الفقر، الأزمات الاقتصادية الشخصية، والمشكلات القانونية. الاستقرار الاجتماعي قد يتأثر بسبب ارتفاع معدلات البطالة والاضطرابات المالية التي قد تؤدي إلى عدم الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي في المجتمعات.
كيف تعزز شركات التمويل من الفقر من خلال القروض؟!
ارتفاع تكاليف الاقتراض:
فشركات التمويل قد تفرض فوائد مرتفعة على القروض، خاصةً إذا كان المقترضون غير قادرين على الحصول على قروض بشروط أفضل من البنوك التقليدية. هذه الفوائد المرتفعة تعني أن تكلفة الاقتراض تتجاوز بكثير مبلغ القرض الأساسي. وعندما يضطر الأفراد للاقتراض بتكاليف عالية، فإنهم يواجهون عبئاً مالياً إضافياً يمكن أن يعوق قدرتهم على تغطية النفقات الأساسية مثل الغذاء، الإسكان، والرعاية الصحية. هذا الوضع قد يؤدي إلى زيادة مستوى الفقر.
تأجيل الاستثمارات الضرورية:
الأفراد الذين يلتزمون بسداد أقساط القروض المرتفعة قد يضطرون لتأجيل استثمارات مهمة مثل التعليم، تحسين المنزل، أو بدء الأعمال التجارية. عدم القدرة على الاستثمار في هذه المجالات يمكن أن يؤثر سلباً على الفرص الاقتصادية المستقبلية للفرد، مما يزيد من الفجوة الاقتصادية بين الأغنياء والفقراء.
سوء إدارة الأموال:
الأفراد الذين يقترضون بشكل مفرط قد يواجهون صعوبة في إدارة مواردهم المالية بفعالية. القروض قد تؤدي إلى التزامات مالية كبيرة، مما يجعل من الصعب على الأفراد إدارة أموالهم بشكل جيد. فسوء إدارة الأموال يمكن أن يؤدي إلى مزيد من المشاكل المالية، مثل تفاقم الديون وزيادة الضغوط الاقتصادية، مما يعزز وضع الفقر.
زيادة الاستدانة في ظل الأزمات الاقتصادية:
في الأوقات التي تعاني فيها الأفراد من أزمات اقتصادية مثل فقدان العمل أو انخفاض الدخل، قد يكونون مضطرين للاقتراض لتلبية احتياجاتهم الأساسية. في مثل هذه الحالات، قد يكونون مضطرين للاقتراض من شركات التمويل ذات الفوائد المرتفعة، مما يجعل من الصعب عليهم التعافي من الأزمات الاقتصادية ويزيد من خطر تفاقم الفقر.
التورط في دوامة الديون:
الأفراد الذين يواجهون صعوبة في سداد القروض قد يضطرون للاقتراض مرة أخرى لتسديد القروض السابقة، مما يؤدي إلى زيادة التزاماتهم المالية. هذه الدوامة من الديون يمكن أن تؤدي إلى تفاقم الوضع المالي للأفراد وتجعل من الصعب عليهم تحسين وضعهم الاقتصادي، مما يعزز الفقر.
الضعف في الشبكات الاجتماعية:
الأفراد الذين يواجهون مشاكل مالية كبيرة قد يفقدون الدعم الاجتماعي من الأصدقاء والعائلة، حيث قد لا يكون لديهم القدرة على تلبية التزاماتهم أو دعم الآخرين. ضعف الشبكات الاجتماعية يمكن أن يعزل الأفراد ويزيد من معاناتهم الاقتصادية، مما يؤدي إلى تعزيز الفقر.
بالتالي، يتطلب الأمر جهدًا جماعيًا من الحكومات والمؤسسات المالية والمجتمع للتعامل مع مشكلة تعزيز الفقر الناتجة عن القروض والتأكد من توفير بيئة مالية أكثر استقرارًا وشفافية.