عاطف الجلالي يكتب: وخزة ضمير

في رحلتي كطبيب نفسي محترف نشأت في بيئة تهوى الأدب حيث كان جدي أديباً كبيراً ، رأيتني أطوف بذاكرتي بين الحين والأخر أستدعي شخوص مرضاي وحالتهم للدرس والفحص ، أحسبها عادة لازالت تلازمني حتى الأن ، فوجدتني عالجت حالات شتى ، عايشتها وتفاعلت مع كثير منها، وبينا أنا كذلك استوقفني خبر حلف يمين الوزراء الجدد ، فقفزت في ذهني حالة ذلك السياسي المرموق التي كانت قسماته تفصح بالهيبة والوقار ويخيل لمن يراه للوهلة الأولى أنه حازمٌ ومنضبطٌ لأقصى درجات الصرامة.
حتى رأيته في إحدى زياراتي المتعاقبة الأخيرة قبيل وفاته التي غالباً ما كانت تتم في سرية بالغة التعقيد لدواع أمنية – شخصاً مغايراً غير الذي عرفته وكانت هناك شائعات تشير إلى إبعاده من منصبه لأسباب لا أعلمها ، حيث بدا مستسلماً.. منكسراً …أوزعاً مابين مهزوم و عازف عن الحياة ، وقال بصوت خافت فضلاً يادكتور لا أريد بعد اليوم علاجاً أو عقاقير فأنا أعرف علتي و دواءها ، ثم استرسل بلا تحفظ ، هذا تاريخي حافلاً بالرياء والإنبطاح من أول سلمي الوظيفي.
حتى أخره ، قد ألفت الطعام على كل الموائد من أجل الوصول إلى السلطة وإرضاء السلطان ، أذهب مع الذاهبين واعود مع العائدين أركب في كل السفن حتى إذا هوت شراع إحداها وشارفت على الغرق ، أكون أول من يقفز إلى التي سترسو مكانها ، ومن فرط إمعاني في شخصية الخادم المطيع ، بدأ نجمي يبرق وتم ترشيحي لإحدى المناصب القيادية الرفيعة بعد أن حصلت على درجة الدكتوراة التي اقتبست أجزاءها من رسالة أجنبية وإن شئت قل سرقتها إلا عنوانها ، رغم أن هنالك العشرات بل والمئات ممن هم أجدر مني غير أني أتمايز عنهم بالتزلف والخنوع ، فالقاعدة في قاموسنا كلما يزداد طموحك تطلعاً لأعلى فالثمن مزيد من التنازلات ، حتى أصبحت أنا وكثر مسؤلين بشكل أو بآخر عن تردي الأوضاع التي تموج بها حياتنا طولاً وعرضا ، كنا. لا نقوى على رفض سياسات أو أوامر نرى فيها مجافاة للحق والعدل ، ولا غضاضة أن ندلي بأرقام وتصريحات على خلاف الحقيقة ، وها أنا قد ذهب عني سلطاني وترجلت عن عرشي وانفض القوم من حولي وبلغني الكبر والمرض ، وأشعر بأن الأجل قد اقترب وليس في جعبتي غير الظلم والفساد ، فتمنيت لو عاد بي الزمان لأعيش في قريتنا فلاحاً أجيراً اسوق غنمات فلان وفلان ، لا حظ لي من التعليم غير اني أقرأ القرآن متتعتاً فأفوز بالأجرين ، نهاري بيني و بين غنماتي وسمر الليل عندي بين ذكري وتسبيحي ، لا أبرح عتبة بابي إلا لأعود مريضاً أو أساعد محتاجٍاً وإن سألوني من عمدة قريتكم لاتسعفني ذاكرتي ، لا شأن لي بالسياسة أو أصحابها ، نظر إلي ملياًوقال عبارة واحدة لقد بعت أخرتي بدنيا غيري وأطرق بعينيه وتوسد فراشه وقد تلبسته حالة من اليأس والعجز ، فأيقنت بحسي كطبيب أنها صحوة الضمير المتأخرة ، تركته وأنا شارداً في تفكيري متأملاً حتى أني لم أعرف كيف وصلت لمنزلي ، وبعدها بساعات رحل الرجل في صمت دون صخب وكانت جنازته متواضعة لم يتقدمها إلا نفر من أقربائه وذويه ، رحل ولم يتحقق حلمه البسيط بحياة الفلاح الأجير راعي الغنمات وهو الذي يملك الضياع والقصور ، رحل وهو يتنكر لماضية الحافل بالزخم من السطوة والنفوذ ، وهو الذي كانت شهرته تفوق لاعبي الكرة ونجوم الفن تلاحقه عدسات الصحفيين ليتصدر عناوين الصحف وشاشات التلفاز .
وبينما أنا بين المشيعين تدور في مخيلتي هذة المشاهد ، قطعها جرس هاتفي للتذكير بزيارة مرضى جدد… عذراً .. مسؤؤلين جدد