للحرية الحمراء بابٌ.. شوقي يلهم السنوار بعد مئة عام

“للحرية الحمراء بابٌ، بكل يدٍ مضرجةٍ يُدقّ”.. بيت شعر كُتب قبل قرن من الزمن، يغزو مواقع التواصل الاجتماعي في الساعات القليلة الماضية، حين ظهر الشهيد يحيى السنوار، قائد حركة المقاومة الفلسطينية “حماس”، في مقطع فيديو نشرته كتائب القسّام، ضمن برنامج “ما خفي أعظم”.
في الفيديو، ظهر السنوار وهو يتفقد مقاتلي المقاومة في قطاع غزة وسط الطقس البارد، مرتديًا ملابس ثقيلة ومتعممًا بكوفية فلسطينية تخفي ملامحه، كان يتحرك متكئًا على عصا سوداء بين صفوف المقاتلين، مرددًا بيت الشعر.
الفيديو أثار تفاعلًا واسعًا على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث أصبح بيت الشعر رمزًا يعكس إصرار المقاومة على مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، مهما كانت التضحيات.. فما قصة هذا البيت وسر اختيار السنوار له؟
للحرّيةِ الحمراءُ بابٌ
بكلِّ يدٍ مُضرّجةٍ يُدقُّ#السنوار pic.twitter.com/Rc8RPYt9zR— صـــالـــح (@Saleh24427) January 24, 2025
— صـــالـــح (@Saleh24427) January 24, 2025
من نكبة دمشق إلى نكبة غزة
في 1925؛ كتب الشاعر المصري أحمد شوقي واحدة من أبرز قصائده التي خلدت في ذاكرة الشعر العربي الحديث، كانت شاهدة على حقبة من الألم والمجد، ورسالة أمل للشعوب الساعية إلى الحرية، وهي قصيدة “نكبة دمشق”.
جاءت هذه القصيدة ردًا على الأحداث الأليمة التي شهدتها دمشق عقب الثورة السورية الكبرى ضد الاحتلال الفرنسي، والتي أدت إلى قصف المدينة وتدمير أحيائها.
وافتتح شوقي القصيدة بتحية خاصة لدمشق، مستخدمًا رموزها الطبيعية التي ترمز إلى نقاء تاريخها وأصالة حضارتها، حيث قال: “سلامٌ من صبا بردى أرقُّ.. ودمعٌ لا يُكفكفُ يا دمشقُ”
في هذه الأبيات، عكس شوقي حزنه العميق لما أصاب المدينة، واصفًا الدموع التي لا تهدأ كدلالة على فداحة المصيبة.
ولم تكن القصيدة مجرد بكاء على الأطلال، بل نافذة على عظمة دمشق، التي وصفها شوقي بأنها مصدر للحضارة الإسلامية والعربية على مر العصور، كما أشار إلى دورها التاريخي في بناء الممالك وإشعاعها الثقافي الذي وصل إلى الأندلس، قائلًا:
“بنيتِ الدولة الكبرى وملكًا.. غبار حضارتَيه لا يُشَقُّ”
و رسم لوحة فنية عن المدينة التي كانت تفيض بالجمال والحياة، قبل أن يطالها الخراب بسبب الاستعمار، وتحدث عن بردى وغوطة دمشق وأهلها الذين تميزوا بالفصاحة والشجاعة، مما جعل صدمة ما حل بها أعظم.
انتقل شوقي في أبياته إلى وصف المأساة التي عايشتها دمشق جراء قصف الاحتلال الفرنسي، وصوّر حال أهلها الذين لم يسلموا من ويلات القصف، حتى وهم يحاولون الهرب. وفي لفتة قوية، أظهر شوقي قسوة المستعمر بقوله:
“سَلي مَنْ راعَ غِيدَك بعدَ وَهْنٍ..أبيْنَ فؤادِه والصخرِ فَرْقُ؟”
لكن شوقي لم يغفل الإشادة بشجاعة أهل دمشق وصمودهم، مؤكدًا أن دماء الثوار الذين واجهوا الاحتلال الفرنسي ستظل شاهدة على شجاعتهم، حيث قال: “دمُ الثوارِ تعرفُه فرنسا.. وتعلم أنه نورٌ وحَقُّ”
وفي بيت خالد، ربط بين الحرية والتضحيات العظيمة التي تحتاجها الشعوب لنيل استقلالها: “وللحريةِ الحمراءِ بابٌ..بكلِّ يدٍ مُضَرَّجَةٍ يُدَقُّ”
احتلال ومجازر ومقاومة
في عصر يوم الأحد، 18 أكتوبر 1925، ارتكبت القوات الفرنسية واحدة من أبشع المجازر في تاريخ سوريا، عندما أصدر المفوض الفرنسي موريس ساراي أوامره بقصف الأحياء الجنوبية لدمشق من المدافع المتمركزة على قمة جبل المزة.
جاء هذا الاعتداء الوحشي كردٍّ على مساندة أهالي دمشق للثوار السوريين الذين شنوا هجومًا على مقر المفوضية الفرنسية.
قاد الهجوم مجموعة من الثوار، الأولى بقيادة المجاهد الشهيد حسن الخراط من جهة حي الميدان، والثانية من الخيالة المسلحة بقيادة بطل دير الزور الشهيد رمضان شلاش من جهة حي الشاغور.
اتحدت المجموعتان ونجحتا في اقتحام قصر العظم، مقر إقامة المفوض السامي، بعد اشتباكات مع الحراس، وتمكنتا من مصادرة محتوياته.
أمام صمود الثوار، اضطرت القوات الفرنسية إلى الانسحاب بحلول الرابعة عصرًا، وسحبت جنودها من الأحياء المسيحية محاولةً إشعال فتنة طائفية.
لكن الثوار، بقيادة حسن الخراط، أجهضوا هذا المخطط الخبيث، مطمئنين مسيحيي دمشق على حياتهم وممتلكاتهم.
استمر القصف الفرنسي على دمشق ثلاثة أيام متواصلة، من 18 حتى مساء 20 أكتوبر، مخلّفًا كارثة إنسانية وأضرارًا لا تُقدّر بثمن.
قُدّر عدد الضحايا بـ1416 قتيلًا، بينهم 336 من النساء والأطفال، كما دُمّرت أحياء بكاملها، أبرزها حي سيدي عامود الملاصق لسوق الحميدية، والذي كان يضم نفائس العمارة الدمشقية، إضافة إلى الأضرار الجسيمة التي لحقت بـسوق مدحت باشا والشارع المستقيم.
أثارت هذه المجزرة غضبًا دوليًا، وأحرجت فرنسا التي سارعت إلى استدعاء ساراي إلى باريس، حيث تم عزله من منصبه وتعيين هنري دول جوفونيل خلفًا له، ليكون أول مدني يتولى هذا المنصب في سوريا.
أمير الشعراء
أحمد شوقي، (1868- 1932 م)، أحد أعمدة الشعر العربي في عصر النهضة، وأحد أبرز الشخصيات الأدبية التي حفرت اسمها في تاريخ الأدب العربي الحديث.
لُقب بـ”أمير الشعراء” بفضل إنتاجه الغزير وأسلوبه المتفرد، الذي مزج بين عبق التراث العربي والتجديد في الشكل والمضمون.
تميّز شوقي بقصائده التي تنوعت بين الوطنيات والمديح والرثاء والاجتماعيات، فضلاً عن مساهماته في الشعر المسرحي، ما جعله يحتل مكانة رفيعة بين الشعراء المحدثين والمعاصرين.
رغم كثرة إنتاجه الشعري، يجد القارئ صعوبة في اختيار قصيدة واحدة لتمثيل مسيرته الإبداعية، إذ تميز معظم شعره بقوة المعاني وجزالة الألفاظ وعمق الأفكار.
استطاع شوقي أن يجسد قضايا عصره، ويعبّر عن مشاعر الإنسان العربي، تاركًا بصمة شعرية لا تُنسى في التراث الأدبي.
أبيات من القصيدة:
وللأَوطــانِ فــي دَمِ كــلِّ حُــرٍّ.. يَـــدٌ ســلفتْ وديْــنٌ مُســتحِقُّ
ومــن يَســقي ويَشــربُ بالمنايـا.. إِذا الأَحــرارُ لـم يُسـقَوا ويَسـقُو؟
ولا يبنـــي الممــالكَ كالضحايــا.. ولا يُـــدني الحــقوقَ ولا يُحِــقُّ
ففـــي القتــلى لأَجيــالٍ حيــاةٌ.. وفـي الأَسْـرَى فِـدًى لهمـو وعِتْـقُ
وللحريـــةِ الحـــمراءِ بـــابٌ.. بكـــلِّ يَـــدٍ مُضَرَّجَــةٍ يُــدَقُّ
جــزاكم ذو الجــلالِ بنـى دِمَشـقٍ.. وعــزُّ الشــرقِ أَوَّلُــهُ دِمَشْــقُ