محمد الضيف.. الشهيد الغامض في الحياة والموت؟

“اليوم ينفجر غضب الأقصى، غضب شعبنا وأمتنا. يا مجاهدينا، اليوم هو يومكم لتجعلوا هذا المجرم يفهم أن زمنه قد انتهى”… إشارة البدء التي أطلقها قائد أركان كتائب القسام “محمد الضيف- أبو خالد”، مطلقًا معركة “طوفان الأقصى”، حيث اقتحم جنود المقاومة مستوطنات غلاف غزة ومعسكراته، وتمكنوا من أسر قرابة 240 أسيرًا.
وعلى إثر ذلك، دخلت المقاومة في معركة مع الاحتلال استمرت ما يربو على 15 شهرًا، لم يظهر “الضيف” خلالها إلا اسمًا في أخبار متداولة، يعلنها الاحتلال كل فترة عن وجوده وصورته الحقيقية وحالته الصحية وشائعات اغتياله، وعلى الرغم من اختفاءه، بقي شغلًا شاغلًا للاحتلال وقادته، فمن هو ذلك الرجل الذي يملك تلك القوة القاهرة؟
حياته ونشأته
هو “محمد دياب إبراهيم المصري” قائد أركان كتائب عز الدين القسام- الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية حماس- وأحد مؤسسيها، وأحد منشئي ترسانتها العسكرية، ولد عام 1965 في خانيونس بغزة، تعود أصوله إلى قرية “كوكبة” المجاورة لعسقلان.
التحق بقسم الأحياء بكلية العلوم بالجامعة الإسلامية في غزة، وتخرج فيها عام 1988، و انضم للكتلة الإسلامية- التي كانت الإطار الطلابي لحركة حماس- إبان دراسته، وكان مسؤول اللجنة الفنية فيها، ونشط في العمل الطلابي والتطوعي والإغاثي في غزة وكان عضوًا بارزًا في الحركة الطلابية.
اشتهر بطيب معشره، وحسن جواره، حيث وصفته والدة زوجته: بأنه “رجلٌ من زمن الصحابة”، وتحدث عن الود الذي كان يعاملها به، فقالت: “كان يبرني كما يبر أمّه”.
حاز لقب (الضيف) لأنه لا يستقر في مكان فترة كبيرة، بل يتنقل من مكان لآخر يحل فيه ضيفًا لمدة قصيرة ثم ينتقل لغيره، بسبب الدواعي الأمنية، وقيل أنه حل ضيفًا على الصفة الغربية لبعض الوقت فحمل لقب (الضيف)، قال عن نفسه في لقاء سابق مع أحد مراسلي قناة الجزيرة،: “كنت متحركا ضيفا في هذه الأراضي، من شمال قطاع غزة إلى جنوبها إلى الضفة الغربية، في كل مكان من هذه الديار الحبيبة”.
ساهم في بناء كتائب القسام في الضفة الغربية، وقد حكى “الضيف”- في نفس اللقاء- قصة بناء الكتائب، التي بدأت عام 1993، حيث بنى ورفاقه مجموعتين للمقاومة في غزة، قبل أن يرحل إلى الضفة فيبني مع رفاقه مجموعتين أخرتين، وقال: “إن تلك المجموعات كانت 4، وهي مجمل الكتائب في ذلك الوقت”.
معاركه مع الاحتلال
“الضيف” الذي لقبه الإعلام الفلسطيني بلقب “شَيخُ الحُروبِ وَكَهلُها وَفَتاها”، لمَّا تعددت معاركه مع الاحتلال على طول مراحله العمرية، منذ مطلع شبابه، وقد تحدث في لقاءه مع الجزيرة عن عمليات المقاومة التي شارك فيها وتطورها، فقال: “في البداية كان عمل ضد العملاء، ثم عمليات إطلاق نار على الجيش الإسرائيلي، ثم بدأت عمليات التفجير التي أطلقها يحيى عياش، وتواصلت واستمرت بعد ذلك، ثم تطورت لحرب الأنفاق حتى وصلنا لاقتحام المستوطنات، وقتل المستوطنين وجنود حرس الحدود وضباط جيش الاحتلال والمخابرات”.
وأضاف: “وكان آخر ما وصلنا إليه قبل انسحاب الاحتلال من غزة هو حرب الأنفاق، والتي اعتبرها حرب نوعية بكل معنى الكلمة، وهي القشة التي قصمت ظهر البعير”، وقد وجه رسالة للاحتلال عقب انسحابه من غزة عام 2005، فقال: “اليوم تخرجون من غزة لأنها جحيم، وغداً سنجعل لكم كل فلسطين جحيم”..
اعتقله الاحتلال خلال حملة الاعتقالات التي شنها على حماس بعد تخرجه بعام واحد، وكان من ضمن المعتقلين معه مؤسس الحركة الشيخ “أحمد ياسين”، واستمر اعتقاله لعام وأربعة شهور دون محاكمة، ووجهت إليه سلطات الاحتلال تهمة العمل في الجهاز العسكري لحركة حماس الذي أسسه “صلاح شحاده”.
وخلال اعتقاله أسس مع “صلاح شحادة و زكريا الشوربجي” مجموعة عمل لأسر جنود الاحتلال، وحرص خلال الاتفاق على تأسيسها أن يفصلها عن كل التنظيمات حتى لا يصل إليها الاحتلال.
تسلم قيادة فرع غزة في كتائب “عز الدين القسام” عقب اغتيال القائد الشهيد “عماد عقل” عام 1993، وتحمل جزءًا كبيرًا من مسؤوليات الجناح العسكري، إبان اعتقال مؤسسه الأول “صلاح شحاده”، وقد تحدث عن البنية الهرمية التي وضعها لكتائب القسام، فقال: “هناك مجلس عسكري أعلى للكتائب، تتفرع عنه ألوية، والألوية تتكون من عدة كتائب، والكتائب تتكون من عدة سرايا، والسرايا من عدة فصائل، والفصائل من عدة مجموعات”.
أثار حقد سلطات الاحتلال بسبب عملياته الموجعة التي كبدتها خسائر بشرية ومادية كبيرة، فأضحى جزءًا من صفقة عقدتها مع السلطة الفلسطينية، تقضي باعتقال الأخيرة له مقابل أن يمنحها الاحتلال السيطرة الأمنية على ثلاث قرى في القدس، وبالفعل اعتقلته السلطة الفلسطينية في مايو عام 2000- بعد ضغط من رئيس حكومة الاحتلال آنذاك “إيهود باراك”- ونجح في الهروب مع اندلاع الانتفاضة الثانية، ليختفي أثره ولا يعرف مكانه حتى إعلان استشهاده.
كان رفيقًا للمهندس “يحيى عياش”- الذي كان قائدًا لكتائب القسام في الضفة، وعقب اغتياله عام 1996 شارك في إدارة عمليات “الثأر المقدس” للمهندس في مارس من نفس العام، بمعاونة وتنفيذ “حسن سلامة”- الذي يقضي في سجون الاحتلال أحكامًا وصلت 48 مؤبدًا بسبب مسؤوليته عن هذه العمليات- وهو أحد الأسماء التي تصر المقاومة على إطلاق سراحها في صفقة تبادل الأسرى الحالية- وكانت معظمها عمليات استشهادية في القدس وعسقلان وتل أبيب، وأسفرت عن مقتل 60 إسرائيليًا و إصابة 210 آخرين.
كان صاحب مبادرة تصنيع الصواريخ في حماس- حسب ما نشر إعلام الاحتلال- وكلف “عدنان الغول” بتنفيذها، وأجروا تجارب أول صواريخ المقاومة عام 2001، حيث حاول الاحتلال اغتيالهما بعد ذلك.
الشبح المطلوب للاحتلال
يعد الضيف من أوائل المطلوبين للاحتلال منذ عام 1992، وقد رصدت سلطاته آلاف الدولارات لمن يدلي بمعلومات تؤدي للقبض عليه، أو لمن يقتله، ليصبح في السنوات الأخيرة ثالث أغلى رأس في غزة، بعد السنوارين “يحيى ومحمد”.
فشل الاحتلال في اغتياله على مدار 3 عقود، رجحت وسائل إعلام فلسطينية أنه نجا من تسع محاولات اغتيال إسرائيلية، فيما اتخذت بعض وسائل الإعلام نبرة أكثر حذرا حين قالت أن محاولات اغتياله تعدت سبع محاولات، كان آخرها في عام 2021، كما أسفرت أحدها عام 2014 عن استشهاد زوجته وابنه الرضيع “علي”، لذا لقبه أمن الاحتلال بلقب “القط ذو التسعة أرواح”، ويصفونه أحيانًا “بالحرباء”، حيث لا يوجد سوى ثلاث صور للضيف: واحدة في العشرينات من عمره وأخرى له ملثم والثالثة لظله- وهي التي تظهر في الأحاديث التي يعلن فيها عن أحداث مهمة، ولأنه لا يظهر في لقاءات أو أماكن عامة، ونادرًا ما يلقي أحاديث، يتحدث عنه إعلام الاحتلال بأنه “الشبح”.
حاولت سلطات الاحتلال تبرير الفشل في اغتياله، فقالت عنه أجهزته الأمنية: إنه هدف يتمتع بقدرة غير عادية على التخفي، ويحيط به الغموض، حتى وصفه “رونان بروجمان”- كبير المحللين العسكريين في صحيفة “يديعوت أحرونوت”: بأنه “طائر العنقاء الفلسطيني”، لأنه- في رؤيته- ينهض مجددًا من بين النار والرماد لينفض الغبار عن ثيابه ويواصل الطريق.
كما ادعت مخابرات الاحتلال أن محاولات الاغتيال أفقدته إحدى عينيه وقدميه وإحدى يديه، ليظهر في عدة صور ومقاطع مصورة- حصل عليها جنود الاحتلال بعد دخولهم القطاع خلال معركة الطوفان- بجسد سليم معافى لا يعاني إلا من عرج خفيف في إحدى ساقيه، وإصابة بسيطة في إحدى عينيه.
ظهر “أبو خالد” قبل إعلان معركة الطوفان مرة واحدة بعد اختفاء، مع تزايد اعتداءات الاحتلال على حي الشيخ جراح عام 2021، حيث أطلق تحذيرًا للاحتلال قال فيه: إذا لم يتوقف العدوان على حي الشيخ جراح، فإن المقاومة لن تقف مكتوفة الأيدي، وسيتكبد العدو أثمانًا باهظة. ومع تجاهل الاحتلال التصريح أطلق “الضيف” معركة “سيف القدس”، التي أعاد فيها اسم رفيق دربه “يحيى عياش” للأفق، حينما أطلقت القسام الصاروخ “عياش- 250″، وضربت به مطار “رامون” جنوب فلسطين.
وفي معركة “طوفان الأقصى” التي أطلقها “الضيف” بكلمة قصيرة، ظهر في مقطع مصور ضمن حلقة وثائقية لبرنامج “ما خفي أعظم”، بينما يشرح تكتيكات المعركة، التي تميزت بأعلى درجات السرية، وممارسة أعلى درجات الخداع الاستراتيجي، وفاجأ العدو باستخدام أسلحة نوعية جديدة، اعترف على إثرها قائد أركان الاحتلال “هرتسي هاليفي” بالهزيمة أمام المقاومة، والفشل في تحقيق أهداف الحرب، على الرغم من فارق الإمكانيات.
استشهاده وعائلته
خلال حرب الإبادة والتطهير التي شنها الاحتلال على أهالي قطاع غزة من المدنيين، أكدت مصادر فلسطينية في القطاع تقول لوكالات أنباء أجنبية: إن أحد المنازل التي قصفتها الغارات الجوية الإسرائيلية في غزة يعود لوالد “الضيف”، ما أدى لاستشهاد شقيقه واثنين آخرين من أفراد أسرته.
وقد ردد الاحتلال كثيرًا أنباء اغتياله على فترات مختلفة طوال المعركة، وفي كل مرة لا يملك تأكيد المعلومة، وحتى المحكمة الجنائية الدولية لم تتمكن من القطع باستشهاده سواء من الطرف الفلسطيني أو الإسرائيلي، وقد بنت ضمه لمذكرة التوقيف على تلك الحالة من عدم اليقين باستشهاده.
حتى خرج الناطق العسكري لكتائب القسام “أبو عبيدة” مساء أمس، معلنًا في كلمة مصورة له استشهادة “الشبح”، الذي طالما كان مصدر رعب للاحتلال، واستشهاد عدد من قيادات المجلس العسكري لكتائب القسام.
ومثلما عاش حياة يغلفها الغموض، كان استشهاده غامضا، إذ لم يعلن أبو عبيدة عن ظروف وملابسات استشهاده ولا موعده ولا مكانه، واكتفى بالإشارة إلى أن القادة الذين أعلن استشهادهم، قضوا مقبلين غير مدبرين في مواطن الشرف والبطولة والعطاء، إما مشتبكين مع العدو، أو أثناء عمليات التنظيم وترتيب الصفوف وإدارة العمليات.
ولم يضف على ذلك سوى أن “أبو خالد” شهيد الأمة، الذي لا تليق الشهادة إلا به، لكن الأمر الواضح والذي أقره الناطق باسم القسام، أن معارك المقاومة وعملياتها استمرت حتى بعد استشهاد القادة، ما يؤكد المعلومات حول البنية التنظيمية الثابتة لكتائب القسام التي أسسها “الضيف”، وأن أثره باق وإن رحل الجسد، وهي الرسالة التي حملها هتاف الجماهير فور إعلان استشهاده، بما فرضه قائدًا للمعركة وبطلها ورجلها الغامض…
2 تعليقات