ليلة القدر.. سرّ البركة والنفحات الإلهية

تتجه أنظار المسلمين خلال العشر الأواخر من رمضان، إلى ليلة استثنائية، ليلة اختصها الله بمكانة لا تضاهيها ليلة أخرى، إنها ليلة القدر، تلك اللحظة التي تتبدل فيها الأقدار، وتُمحى فيها الذنوب، وتتنزل فيها الرحمة بأمر من الله. في كل عام، تتجدد الآمال وتعلو الدعوات، فالكل يبحث عن هذا النور الإلهي الذي يعيد ترتيب القلوب ويغسل الأرواح من شوائبها.
ليست ليلة القدر مجرد ليلة في التقويم، بل هي نافذة مفتوحة بين الأرض والسماء، تتنزل فيها الملائكة، ويشعر فيها المؤمنون براحة لا توصف، كأنهم في حضرة رحمة خاصة لا تشبه أي شعور آخر. جاء ذكرها في القرآن الكريم بسورة كاملة، ما يدل على عظمتها وفضلها، بل إن الله وصفها بأنها “خير من ألف شهر”، أي أن العمل فيها يساوي عبادة أكثر من 83 عامًا.
المثير في ليلة القدر أنها مخفية عن العيون، رغم وضوح أثرها، وهنا يكمن السرّ. إنها ليلة لا تأتي لمن يبحث عنها بطريقة سطحية، بل لمن يسعى إليها بقلب صادق وروح مشتاقة. البعض قد يظن أنها مجرد ليلة للقيام والدعاء، لكنها في الحقيقة فرصة لمراجعة النفس، فرصة لتحويل المسار من الركض خلف الدنيا إلى السعي نحو رضا الله.
في هذه الليلة، يختفي الضجيج، ويعلو صوت التسبيح، وتذوب الفوارق بين البشر، لا غني ولا فقير، لا قوي ولا ضعيف، الكل يقف على نفس العتبة، يرجو القبول والمغفرة. في عالم يملؤه الصخب والضغوط، تأتي ليلة القدر كهدية، كمساحة هادئة وسط زحام الحياة، وكفرصة لمن يريد أن يبدأ من جديد، بعيدًا عن ثقل الأخطاء الماضية.
تختلف مشاعر الناس تجاه هذه الليلة، فهناك من يستعد لها قبل رمضان، وهناك من يدرك قيمتها في اللحظات الأخيرة، لكن الأكيد أنها ليلة لا تمر على قلب مؤمن دون أن تترك فيه أثرًا. البعض يشعر بنور داخلي لا يمكن تفسيره، والبعض يبكي بلا سبب واضح، وكأن الروح أدركت شيئًا لا يفهمه العقل.
في النهاية، ليلة القدر ليست مجرد حدث عابر في شهر رمضان، بل هي رسالة لكل إنسان بأن هناك دائمًا فرصة جديدة، باب مفتوح لمن يطرق، ونور ينتظر من يبحث عنه. هي ليلة يكتب فيها التاريخ الشخصي لكل فرد من جديد، فإما أن يغتنمها ويكتب اسمه في سجل العتقاء، أو يمر عليها دون أن يشعر بها، ويفوّت أعظم هدية من السماء.