تقارير-و-تحقيقات

صيام الست من شوال.. عبادة موسمية على طاولة الاجتهاد الفقهي

مع انقضاء شهر رمضان المبارك وانشغال الناس بعيد الفطر يعود إلى الواجهة سنويًا تساؤل يتردد على ألسنة كثير من المسلمين: هل من الأفضل أن أصوم الست من شوال أولًا أم أقضي ما فاتني من رمضان؟ وهل يمكنني الجمع بين النيتين؟
هذا السؤال وغيره من التساؤلات الشرعية المرتبطة بصيام الستة من شوال يشغل بال كثيرين، خاصة مع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من صام رمضان ثم أتبعه ستًا من شوال كان كصيام الدهر.”

ومع أن الحديث يبدو واضحًا في بيان الفضل إلا أن تنوع آراء الفقهاء حول تفاصيل هذا الصيام، خصوصًا ما يتعلق بالحكم، وتوقيت الصيام والجمع بين النوايا يفتح بابًا لتحقيق فقهي موسمي يستحق التأمل والتفصيل.

في هذا التحقيق، نتناول هذه الشعيرة الموسمية من زوايا متعددة ونرصد الآراء الفقهية المتباينة حولها ونتتبع خلفياتها التشريعية لنصل إلى رؤية شاملة، بعيدة عن الفتاوى المجتزأة تُنير الطريق أمام من يبتغي إتمام صيامه بما يوافق هدي النبي صلى الله عليه وسلم وتعاليم الشرع.

الفضل المؤكد… وعد النبوة بثواب عظيم

الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن أبي أيوب الأنصاري يُعد حجر الأساس في الاستدلال على فضل صيام الست من شوال فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«مَن صامَ رَمَضانَ ثُمَّ أتْبَعَهُ سِتًّا مِن شَوَّالٍ، كانَ كَصِيامِ الدَّهْرِ».

ولفهم مضمون هذا الحديث، يوضح العلماء أن المقصود بـ “صيام الدهر” هو صيام العام كله، حيث إن الحسنة بعشر أمثالها، وصيام رمضان (30 يومًا) × 10 = 300 يوم، وصيام 6 أيام من شوال × 10 = 60 يومًا، فيكون المجموع 360 يومًا، أي ما يعادل السنة القمرية.

الدكتور علي جمعة، مفتي الديار المصرية الأسبق يؤكد أن هذا الفضل لا ينبغي أن يُهمل إذ فيه دلالة على حرص الإسلام على الاستمرارية في الطاعات وأنه لا يكتفي بإتمام الفريضة بل يحث على ما بعدها من نوافل تعزز الإيمان وترتقي بالعبد.

توقيت الصيام: هل يشترط التتابع؟ ومتى يبدأ؟

رغم أن الحديث الشريف لم يقيّد الصيام بتتابع معين إلا أن البعض قد يتساءل: هل يجب صيام الأيام الستة متتابعة؟ أم يكفي توزيعها على شوال؟
الإجابة عند جمهور الفقهاء واضحة: لا يُشترط التتابع. فالصيام يجوز متفرقًا بل وحتى صيام يومين في الأسبوع (مثلاً الإثنين والخميس) خلال الشهر يُحقق السنة.

أما عن موعد بداية صيام الست، فيتفق العلماء على أنها تبدأ من اليوم الثاني من شوال أي بعد أول أيام العيد مباشرة باعتبار أن يوم العيد يُحرم فيه الصيام شرعًا.

آراء فقهية متباينة حول الحكم: بين الاستحباب والكراهة

الحديث النبوي المشار إليه لم يأتِ بصيغة إلزام لذا دار النقاش الفقهي حول ما إذا كان صيام الستة من شوال مستحبًا أم مكروهًا أم سنة مؤكدة.

الشافعية والحنابلة وأغلب الحنفية والمالكية: يرون أن صيام الستة مستحب ويُثاب فاعله، دون أن يكون فرضًا استندوا في ذلك إلى صراحة الحديث وعموم الآية: “من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها.”

الإمام مالك وبعض فقهاء المالكية: رأوا أن صيام الست من شوال قد يُكره إذا صامها الناس متصلين برمضان مخافة أن يظن الجاهل أنها جزء من رمضان وقد روى ابن عبد البر عن الإمام مالك أنه قال: “لم أَرَ أحدًا من أهل العلم والفقه يصومها وأخاف بدعتها وأن يُلحقها الجاهل برمضان.”

هذا الرأي المالكي لم يُبْنَ على رفض الفضل وإنما على الحرص من الخلط في نية العامة، خصوصًا في عصر لم تكن فيه وسائل التوعية كما هو الحال اليوم.

أبعاد أخرى للفضل: عشرة أسباب تحفّز على صيام الست

في مراجعة موسعة لما ورد عن أهل العلم يمكن تلخيص أبرز الفوائد التي تجعل من صيام الستة فرصة سنوية لا تُفوّت:

1. تحصيل أجر صيام العام.

2. جبر التقصير في رمضان.

3. الاستمرار في الطاعة بعد رمضان.

4. التقرب بالنوافل كما ورد في الحديث القدسي.

5. خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك.

6. الصائم له باب خاص في الجنة: باب الريان.

7. الصيام يباعد بين العبد والنار.

8. وقاية من الذنوب والشهوات.

9. الصيام يُكفّر الذنوب.

10. الصيام يشفع لصاحبه يوم القيامة.

قضية الساعة: هل يجوز الجمع بين نية قضاء رمضان وصيام الست؟

هذا السؤال يُطرح بكثرة خصوصًا بين النساء إذ أن كثيرات منهن يفطرن في رمضان لأسباب شرعية ويبحثن عن طريقة للجمع بين الصيام الواجب (قضاء رمضان) والمستحب (الست من شوال).

أبرز ثلاث آراء فقهية تتنازع هذه المسألة:

الرأي الأول (المنع): يرى أصحابه أنه لا يجوز الجمع بين نيتين، ويقع الصيام عن إحداهما فقط. وغالبًا ما يُرجّح أنه يقع عن الفرض دون النفل. هذا رأي بعض الحنفية والشافعية.

الرأي الثاني (الجواز مع تحصيل الأجرين): ذهب إليه عدد من العلماء، وعلى رأسهم الدكتور علي جمعة، الذي قاس المسألة على صلاة تحية المسجد التي يحصل المرء على أجرها وإن صلى الفريضة وحدها ويقول إن المرأة إذا صامت قضاءً في شوال حصلت على أجر القضاء وأجر الست، حتى وإن لم تنوِ النفل صراحة.

الرأي الثالث (عدم صحة الجمع إطلاقًا): بعض الفقهاء، خاصة من الشافعية، يرون أنه لا يصح الجمع، لأن النفل لا يُؤدى ضمن نية القضاء، ولكل عبادة نية مستقلة.

أبعاد اجتماعية ونفسية للصيام بعد رمضان

البعد النفسي والاجتماعي لصيام الست لا يقل أهمية عن أبعادها الشرعية فالعودة للصيام بعد العيد تساعد على المحافظة على أجواء الروحانية التي كانت في رمضان، وتُجنب الوقوع في الغفلة بعد شهر الطاعة كما أن هذه الأيام تُعد فرصة لكسر روتين العيد الممتد، وتوازن بين الانغماس في المباحات والاستمرار في التقوى.

بين المستحب والواجب… يبقى الباب مفتوحًا لمن أراد القرب

في نهاية المطاف، تبقى عبادة صيام الستة من شوال نافذة روحية مشرعة أمام المسلم الذي يبتغي القرب من ربه بعد موسم رمضان.
الاختلاف الفقهي حول بعض التفاصيل لا يُنقص من فضلها، بل يعكس عمق الاجتهاد الإسلامي، ومرونة الفقه في استيعاب تنوع النوايا والظروف.

وبين من يصومها بنية مستقلة، ومن يدمجها مع القضاء ومن يتركها خشية التشبه بالفريضة، يتضح أن الغاية الأسمى هي دوام الصلة بالله تعالى وتعزيز التقوى، وترسيخ مبدأ الاستمرارية في العبادة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights