مقتل موظفي السفارة الإسرائيلية بواشنطن.. اغتيال سياسي أم غضب فردي؟

شهدت العاصمة الأمريكية واشنطن، مساء الثلاثاء، حادثة إطلاق نار أودت بحياة موظفين من السفارة الإسرائيلية، ما أثار حالة من الصدمة والارتباك في الأوساط الدبلوماسية والإعلامية، في واقعة سرعان ما صُنّفت سياسيًا على أنها “هجوم إرهابي معادٍ للسامية”، لكن روايات وتحليلات داخل الولايات المتحدة، خاصة من قبل مختصين بالشأن الأمريكي، تكشف أبعادًا أكثر تعقيدًا لما جرى.
ومع انتشار العديد من المعلومات المغلوطة التي رافقت الواقعة منذ بدايتها، يسعى الصحفي عبد الرحمن يوسف، المتخصص في الشؤون الأمريكية والمقيم في واشنطن، إلى تقديم قراءة دقيقة تستند إلى الحقائق المتوفرة وتحليل معطيات الحادث ضمن السياق الأمريكي الأوسع.
مكان الحادث والظروف الأمنية
يؤكد عبد الرحمن يوسف أن “المكان الذي وقع فيه الحادث هو متحف التراث اليهودي في القطاع الشمالي الغربي لواشنطن، وليس السفارة الإسرائيلية كما تم الترويج سابقًا”.
ويوضح، في تصريحات خاصة لموقع “اليوم”، أن “هذا القطاع كبير جدًا ويضم مؤسسات ثقافية وقضائية وأمنية، وهو ليس بالضرورة قريبًا من السفارة، مما يعني أن تصور وقوع الحادث في محيط السفارة كان مبالغًا فيه وغير دقيق”.
ويشير يوسف إلى أن “موقع المتحف في منطقة مكتظة بالكاميرات الأمنية ودوريات الشرطة، وهو بالقرب من الميدان القضائي ومحكمة دي سي، وعلى بعد عدة شوارع من مقر الإف بي آي، مما يجعل وقوع الحادث هناك أمرًا معقدًا لكنه ليس مستحيلاً، خاصة إذا كان منفذ الحادث فرديًا مسلحًا بسلاح عادي”.
طبيعة الفعالية وغياب الطابع الدبلوماسي
حول الفعالية التي كانت جارية أثناء الحادث، يقول عبد الرحمن يوسف: “لم تكن هناك فعالية دبلوماسية رسمية كما زعم البعض، بل كانت فعالية ثقافية نظمتها اللجنة الأمريكية اليهودية لاستقبال الكفاءات من المجتمع اليهودي، من بينهم صغار دبلوماسيين، لكن السفير الإسرائيلي لم يحضر”.
ويضيف: “هذه الفعاليات ليست معروفة بإجراءات أمنية مشددة، ولا تستوجب إجراءات مشددة مثل إغلاق الشوارع أو تعزيزات أمنية كبيرة، ما يوضح أن توقع حدوث هجوم مسلح خلالها كان أمرًا غير متوقع”.
إلياس رودريغز.. خلفية المنفذ
يلقي يوسف الضوء على خلفية الشاب إلياس رودريغز، قائلاً: “هو باحث في التاريخ وناشط سياسي ينتمي إلى التيار اليساري، وهو مرتبط بحركة حياة السود مهمة التي تركز على معارضة عنف الشرطة ضد الأمريكيين من أصول أفريقية”.
ويضيف: “إلياس ليس شخصًا مختلًا أو منتمياً لمليشيا، بل هو مثقف وذو وعي سياسي واجتماعي، وله موقف معلن ضد السياسات الأمنية والمجتمعية التي تراها هذه الحركات ظالمة”.
ويشير الصحفي إلى أن “شخصيته المعقدة وكتبه ومقالاته تعكس أيديولوجية يسارية معارضة للسياسات الإسرائيلية والأمريكية، وهذا لا يعني بالضرورة أن الحادث كان مخططًا مسبقًا أو مدبّرًا، لكنه يعكس توترًا شديدًا متصاعدًا على المستوى الاجتماعي والسياسي”.
سلاح الحادث والقانون الأمريكي
حول امتلاك السلاح الذي استخدم في الحادث، يوضح يوسف: “على الرغم من تعقيد الإجراءات، فإن القانون الأمريكي في العاصمة واشنطن يسمح بحمل الأسلحة بعد معركة قضائية في المحكمة العليا، مما جعل دي سي آخر منطقة في الولايات المتحدة تعترف بهذا الحق”.
ويضيف: “السلاح الذي كان بحوزة رودريغز هو من نوع عادي متاح بشكل قانوني، وهذا يعكس مشكلة أكبر في الولايات المتحدة حيث يشهد استخدام الأسلحة النارية تزايدًا مستمرًا، حتى في المناطق الحساسة والقريبة من مؤسسات أمنية”.
مؤامرة أم حالة غضب
يرى عبد الرحمن يوسف أن “ربط الحادث بتدبير إسرائيلي أو مؤامرة سياسية هو أمر غير مثبت، وأقول بصراحة إن الارتباط الزمني لا يعني سببية بالضرورة”.
ويوضح: “في البحث العلمي نؤكد أن correlation does not imply causation – أي أن الترابط لا يعني السببية، والظروف المحيطة بالحادث لا تدعم فرضية التواطؤ المباشر”.
ويتابع يوسف: “من المهم أن نميز بين الحادث الذي يبدو أنه عمل فردي نابع من غضب أو موقف سياسي، وبين محاولة تفسيره كجزء من مؤامرة واسعة تخدم جهة سياسية معينة، خاصة في ظل الحملة الأوروبية على الحكومة الإسرائيلية اليمينية”.
مُعللًا أن “ما جرى قد يكون في سياق طبيعي من حيث انسداد الأفق الإنساني والسياسي، في ظل الغضب العالمي المتصاعد تجاه طريقة الإبادة القائمة على التجويع المقنن، الذي يسقط الأطفال أمام الكاميرات، وهو مشهد صادم يثير ردود فعل عميقة ومتنوعة”.
ويضيف في تحليله: “لا يمكن أن نتجاهل ذلك كعامل رئيسي في فهم دوافع الحادثة، فهي تعبير عن حالة من اليأس والإحباط لا يجد أصحابها سوى هذا الشكل من الاحتجاج، حتى وإن كان عنيفاً”.
ويشير عبد الرحمن يوسف أيضاً إلى حادثة الطيار السابق أرون بوشنيل، الذي أقدم على إحراق نفسه أمام السفارة الإسرائيلية في واشنطن منذ ما يقارب العام، في خطوة اعتبرها ذات طابع عنيف لكنه كان أقل حدة من الحادث الأخير.
ويقول: “هذا الإجراء الذي قام به بوشنيل كان محاولة يائسة لفت الانتباه لما يجري، وهو مؤشر على تصاعد موجة الغضب داخل المجتمع الأمريكي تجاه سياسات معينة”.
تاريخ الاعتداءات ضد اليهود في أمريكا
على صعيد أوسع، يؤكد الصحفي أن الاعتداءات ضد اليهود في الولايات المتحدة ليست جديدة، بل هي جزء من سجل طويل يعود إلى ما قبل هجمات السابع من أكتوبر.
ويوضح: “من المعروف أن الحوادث الموجهة ضد اليهود ليست بمعزل عن مشهد تصاعد العنف والتطرف في الولايات المحافظة التي تحوي مجموعات نازية جديدة.
على سبيل المثال، حادثة الاعتداء على معبد في بنسلفانيا عام 2018 تبرز كواحدة من الوقائع التي تعكس هذا التوتر”. ويضيف: “حتى في مدن مثل ناشفيل بولاية تينيسي، حيث شهدت مسيرات للنازيين الجدد، نجد أن التوترات العرقية والدينية تلقي بظلالها على الوضع الأمني والاجتماعي”.
ويؤكد عبد الرحمن يوسف أن “هذه الخلفيات مهمة لفهم السياق الذي حدث فيه الحادث الأخير، ولا يمكن النظر إليه بمعزل عن هذه التوترات المتصاعدة، التي تغذيها قضايا أكبر مثل العنف ضد السود، وتراجع الثقة في المؤسسات، وتصاعد خطابات الكراهية”.
ويشير إلى أن “شرطة دي سي والـ FBI لم تصنف الحادث رسميًا كعمل إرهابي أو كجريمة كراهية معادية للسامية، ما يعزز فرضية أنه عمل منفرد”.
السياق الاجتماعي والسياسي الأوسع
يشدد الصحفي على أن “الولايات المتحدة تشهد حالة من التوتر الاجتماعي والسياسي غير المسبوق، مع تصاعد العنف المسلح وحوادث إطلاق النار، التي لا تخلو من دوافع سياسية أو اجتماعية”.
ويذكر: “هناك حوادث كثيرة تستهدف الشرطة أو رجال أعمال أو مؤسسات، تعكس انقسامات عميقة في المجتمع الأمريكي”.
ويضيف: “الحادثة تعكس حالة الغضب العالمي المتزايد تجاه القضايا الإنسانية، خصوصًا في ظل المشاهد المأساوية التي تحدث في غزة، والتي تؤثر على المشاعر والحركات الاحتجاجية داخل الولايات المتحدة”.
انتظار النتائج الرسمية
يختم عبد الرحمن يوسف تحليله بالإشارة إلى أن “مكتب التحقيقات الفيدرالية وشرطة واشنطن بصدد الإعلان عن مزيد من التفاصيل حول دوافع إلياس رودريغز، وأقواله، والتي من المتوقع أن تكشف عن موقف فلسفي واضح، كما حدث مع بعض الحوادث السابقة التي حملت أبعادًا اجتماعية عميقة”.
ويقول: “علينا أن ننتظر نتائج التحقيقات الرسمية قبل إطلاق أي استنتاجات نهائية، وأن نضع الحادثة في إطارها الحقيقي بعيدًا عن التكهنات أو الدوافع السياسية”.