معركة الوجود والهوية.. هل بدأ نتنياهو تغيير معالم القدس؟

في خطوة وُصفت بأنها تصعيد غير مسبوق في مسار الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو السيطرة الكاملة على القدس، مؤكدًا اعتبارها “عاصمة أبدية موحدة” لدولة الاحتلال.
هذه الخطوة التي ترافقت مع اقتحامات المستوطنين للمسجد الأقصى بهتافات معادية للمسلمين، واقتحام جنود الاحتلال للمصارف ومحلات الذهب في عدة مدن بالضفة الغربية (طولكرم، البيرة، طوباس، نابلس، قلقيلية، بيت لحم، الخليل، سلفيت وجنين)، أثارت تساؤلات عميقة حول الأهداف الحقيقية لإسرائيل.
فهل تمثل هذه الخطوات تكريسًا لواقع جديد على الأرض؟ أم أنها محاولة للهروب من أزمات إسرائيل الداخلية؟ وما هي أبعاد هذا التصعيد، ومآلاته على مستقبل القضية الفلسطينية؟
أسباب دينية وتاريخية واستراتيجية
اللواء محمد عبد الواحد، الخبير في الأمن القومي والعلاقات الدولية، يرى أن خطوة نتنياهو بالسيطرة الكاملة على القدس تعكس دوافع متعددة ومركبة، تجمع بين الأبعاد الدينية والتاريخية والاستراتيجية.
“الحكومة الإسرائيلية الحالية، التي يتزعمها اليمين المتطرف، تحمل قناعة راسخة بضرورة فرض السيادة الإسرائيلية الكاملة على القدس، بما تحتويه من رموز دينية وتاريخية، مثل المسجد الأقصى وحائط البراق (أو ما تسميه إسرائيل ‘جبل الهيكل’)” – يقول اللواء محمد عبد الواحد.
ويضيف في تصريحات خاصة لموقع “اليوم”، أن “اليمين المتطرف يرفض بشكل قاطع فكرة تقسيم المدينة إلى شرقية وغربية، ويعتبر القدس عاصمة موحدة وأبدية لإسرائيل، وهذه القناعة ليست مجرد شعارات سياسية بل هي مرتكزات أيديولوجية مدعومة من تحالفات دولية، أبرزها الدعم الأمريكي القوي الذي تجلى بوضوح في إدارة الرئيس دونالد ترامب، فمن نقل السفارة الأمريكية إلى القدس إلى الاعتراف بها عاصمة موحدة لإسرائيل، مر ترامب بعدة خطوات مثلت فرصة ذهبية لحكومة نتنياهو لتحقيق هذا المشروع”.
فرض سيادة على الأرض وتغيير ديمغرافي
يرى اللواء محمد عبد الواحد أن السيطرة على القدس ليست مجرد تصريحات إعلامية، بل هي محاولة لتغيير الواقع على الأرض.
فمن خلال الاستيلاء على منازل الفلسطينيين وممتلكاتهم، وتشجيع الجمعيات الاستيطانية، تفرض إسرائيل واقعًا ديمغرافيًا جديدًا.
“نتنياهو يسعى لزيادة شعبيته الداخلية عبر مخاطبة جمهور اليمين المتطرف، وتصوير السيطرة الكاملة على القدس كإنجاز تاريخي لم يتحقق منذ قيام إسرائيل”، يوضح اللواء محمد عبد الواحد.
ويضيف: “هذا المسار يعكس رفضًا قاطعًا لأي حل سياسي مع الفلسطينيين، وينسف فكرة الدولة الفلسطينية المستقبلية”.
اقتحام الأقصى واقتحام الاقتصاد
لم تقتصر الممارسات الإسرائيلية على إعلان السيطرة السياسية، بل امتدت إلى هجوم متعدد الأبعاد شمل اقتحام المسجد الأقصى بجموع من المستوطنين المتطرفين وهم يرفعون شعارات معادية للمسلمين، ويؤدون طقوسًا دينية تهدف إلى ترسيخ الرواية اليهودية للمكان.
اللواء محمد عبد الواحد يقول إن هذه الممارسات “تسعى لتغيير الهوية الدينية والثقافية للقدس، وجعلها يهودية بالكامل، عبر فرض الطقوس الدينية والملابس والصلوات الملحمية التي تُجريها الجماعات المتطرفة داخل الأقصى”.
ويضيف أن “هذا التحول يعكس محاولة لاختبار قدرة المسلمين على الصمود، وربما تمهيدًا لهدم المسجد الأقصى في حال غياب ردود فعل قوية”.
الأمر لم يتوقف عند الرموز الدينية، إذ شهدت القدس الشرقية اقتحامات للمصارف ومحلات الذهب، وهو ما وصفه اللواء محمد عبد الواحد بـ”الهجوم المنظم الذي يستهدف الاقتصاد الفلسطيني”.
“عندما يُقتحم مصرف أو تُنهب محلات الذهب، فهذا يزرع الخوف بين أصحاب رؤوس الأموال ويشجعهم على مغادرة المدينة، مما يخلق فراغًا اقتصاديًا يمكن ملؤه بمصالح إسرائيلية”، يوضح الخبير الأمني.
ويتابع: “هذا النوع من الهجمات يعزز من السيطرة الاقتصادية لإسرائيل، ويخلق حالة من الفوضى والانهيار الاقتصادي التي تدفع الفلسطينيين إلى مغادرة القدس”.
اقرأ :: نتنياهو: القدس عاصمتنا الأبدية وحرب غزة “حرب القيامة”
اقرأ أيضًا:: إسرائيل تعرض ملايين الدولارات للدول التي تنقل سفاراتها إلى القدس
مخطط مدروس أم انهيار أمني؟
على الرغم من العنف المنفلت الذي يمارسه المستوطنون في الضفة الغربية والقدس الشرقية، يرى اللواء محمد عبد الواحد أن ما يجري ليس تعبيرًا عن انهيار في السيطرة الأمنية الإسرائيلية، بل هو جزء من مخطط مدروس.
“هذه الاعتداءات تتم غالبًا بغطاء من الجيش والأجهزة الأمنية، لكنها تنفذ بأيدي مجموعات مستوطنين مدنيين، مما يُجنب إسرائيل الحرج القانوني والدولي”، بحسب اللواء عبد الواحد.
ويضيف: “إسرائيل تستخدم هؤلاء المستوطنين كأداة ضغط، فيما الأجهزة الأمنية تراقب وتدير المشهد من خلف الستار، ما يعكس استراتيجية تهدف إلى ترهيب الفلسطينيين، وإضعاف الروح المعنوية، ودفعهم إلى مغادرة قراهم ومدنهم”.
أبعاد دولية وتحالفات متشابكة
يشير اللواء محمد عبد الواحد إلى أن هذه التطورات تأتي وسط تواطؤ دولي وعربي، ما يشجع إسرائيل على التمادي في فرض الأمر الواقع.
“منذ إعلان ترامب عن نقل السفارة، والحكومات العربية والإسلامية لم تتجاوز بيانات الشجب والإدانة، بل إن بعض الدول العربية أقامت تحالفات أمنية واقتصادية مع إسرائيل”، يقول اللواء عبد الواحد.
ويضيف أن “هذا التخاذل يشكل رسالة خطيرة للفلسطينيين، مفادها أن العالم لن يتحرك، وأن عليهم الاعتماد على أنفسهم وحدهم”.
خيارات الفلسطينيين في مواجهة التصعيد
أمام هذا التصعيد المتعدد الأبعاد، يرى اللواء محمد عبد الواحد أن خيارات الفلسطينيين تبدو محدودة، لكنها ليست معدومة.
أولًا: يجب تحقيق الوحدة الوطنية وإنهاء الانقسام الداخلي الذي أضعف القضية الفلسطينية.
ثانيًا: لا بد من تعزيز صمود المقدسيين عبر دعم الاقتصاد المحلي، وإطلاق حملات دولية قانونية وإعلامية لكشف الانتهاكات الإسرائيلية.
ثالثًا: تصعيد المقاومة الشعبية السلمية، وتحويلها إلى ورقة ضغط دولية، سواء عبر الاحتجاجات أو من خلال المؤسسات الدولية.
لكنه يقر بأن “غياب الدعم العربي والإسلامي الحقيقي يجعل هذه الجهود أقل تأثيرًا مما ينبغي”.
معركة الهوية والمستقبل
في ختام حديثه، يصف اللواء محمد عبد الواحد ما يجري في القدس بأنه معركة وجود وهوية، تتجاوز كونها صراعًا على الأرض إلى صراع على الرموز والتاريخ والدين.
“القدس اليوم تواجه أخطر مراحلها، ليس فقط بالاقتحامات والهجمات، بل بمحاولة إعادة صياغة هويتها بالكامل”، يقول الخبير الأمني.
ويضيف: “إسرائيل تراهن على الوقت، وعلى ضعف ردود الفعل الدولية والعربية، لكنها تواجه شعبًا لم يفقد الأمل، ومقاومة لم تنكسر”.